ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر
هذه الآيات، الوليد بن المغيرة، المعاند الحق، المبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة، فذمه الله ذما لم يذم به غيره، وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه، أن له الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، فقال: نزلت في ذرني ومن خلقت وحيدا أي: خلقته منفردا، بلا مال ولا أهل، ولا غيره، فلم أزل أنميه وأربيه ، وجعلت له مالا ممدودا أي: كثيرا ( و ) جعلت له " بنين " أي: ذكورا شهودا أي: حاضرين عنده، على الدوام يتمتع بهم، ويقضي بهم حوائجه، ويستنصر بهم.
ومهدت له تمهيدا أي: مكنته من الدنيا وأسبابها، حتى انقادت له مطالبه، وحصل له ما يشتهي ويريد، ثم مع هذه النعم والإمدادات يطمع أن أزيد أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة كما نال نعيم الدنيا.
كلا أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه، وذلك إنه كان لآياتنا عنيدا : عرفها ثم أنكرها، ودعوته إلى الحق فلم ينقد [ ص: 1906 ] لها ولم يكفه أنه أعرض وتولى، بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها، ولهذا قال عنه: إنه فكر أي: في نفسه وقدر ما فكر فيه، ليقول قولا يبطل به القرآن.
فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر لأنه قدر أمرا ليس في طوره، وتسور على ما لا يناله هو و لا أمثاله، ثم نظر ما يقول، ثم عبس وبسر في وجهه، وظاهره نفرة عن الحق وبغضا له، ثم أدبر أي: تولى واستكبر نتيجة سعيه الفكري والعملي والقولي أن قال:
إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر أي: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، وليس أيضا كلام البشر الأخيار، بل كلام الأشرار منهم والفجار ، من كل كاذب سحار.
فتبا له، ما أبعده من الصواب، وأحراه بالخسارة والتباب!!
كيف يدور في الأذهان، أو يتصوره ضمير أي إنسان، أن يكون أعلى الكلام وأعظمه، كلام الرب العظيم، الماجد الكريم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟! أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد، على وصفه بهذا الوصف لكلام الله تعالى . فما حقه إلا العذاب الشديد والنكال، ولهذا قال تعالى:
سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر أي: لا تبقي من الشدة، ولا على المعذب شيئا إلا وبلغته.
لواحة للبشر أي: تلوحهم وتصليهم في عذابها، وتقلقهم بشدة حرها وقرها.
عليها تسعة عشر من الملائكة، خزنة لها، غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وذلك لشدتهم وقوتهم. وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة، ولزيادة نكالهم فيها، والعذاب يسمى فتنة، كما قال تعالى: يوم هم على النار يفتنون ويحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ممن يكذب، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم وطابقه، ازداد يقينهم بالحق، والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، [ ص: 1907 ] وكل مسألة من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه المقاصد الجليلة، ومميزا للصادقين من الكاذبين، ولهذا قال: وليقول الذين في قلوبهم مرض أي: شك وشبهة ونفاق. والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال:
كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء فمن هداه الله، جعل ما أنزل على رسوله رحمة في حقه، وزيادة في إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة، وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم إلا هو فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب، وما هي إلا ذكرى للبشر أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب، وإنما المقصود به أن يتذكر به البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه.