وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون
(41) أي: ودليل لهم وبرهان، على أن الله وحده المعبود، لأنه المنعم بالنعم، [ ص: 1454 ] الصارف للنقم، الذي من جملة نعمه أنا حملنا ذريتهم قال كثير من المفسرين: المراد بذلك: آباؤهم.
(42) وخلقنا لهم أي: للموجودين من بعدهم من مثله أي: من مثل ذلك الفلك، أي: جنسه ما يركبون به، فذكر نعمته على الآباء بحملهم في السفن، لأن النعمة عليهم، نعمة على الذرية.
وهذا الموضع من أشكل المواضع علي في التفسير، فإن ما ذكره كثير من المفسرين، من أن المراد بالذرية الآباء، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء، بل فيه من الإيهام، وإخراج الكلام عن موضوعه، ما يأباه كلام رب العالمين، وإرادته البيان والتوضيح لعباده.
وثم احتمال أحسن من هذا، وهو أن المراد بالذرية الجنس، وأنهم هم بأنفسهم، لأنهم هم من ذرية بني آدم، ولكن ينقض هذا المعنى قوله: وخلقنا لهم من مثله ما يركبون إن أريد: وخلقنا من مثل ذلك الفلك، أي: لهؤلاء المخاطبين، ما يركبون من أنواع الفلك، فيكون ذلك تكريرا للمعنى، تأباه فصاحة القرآن. فإن أريد بقوله: وخلقنا لهم من مثله ما يركبون الإبل، التي هي سفن البر، استقام المعنى واتضح، إلا أنه يبقى أيضا، أن يكون الكلام فيه تشويش، فإنه لو أريد هذا المعنى، لقال: وآية لهم أنا حملناهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، فأما أن يقول في الأول: حملنا ذريتهم، وفي الثاني: حملناهم، فإنه لا يظهر المعنى، إلا أن يقال: الضمير عائد إلى الذرية، والله أعلم بحقيقة الحال.
فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى، وذلك أن من عرف جلالة كتاب الله وبيانه التام من كل وجه، للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله، وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على عباده، من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة، ولم تزل موجودة في كل زمان، إلى زمان المواجهين بالقرآن.
فلما خاطبهم الله تعالى بالقرآن، وذكر حالة الفلك، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في غير وقتهم، وفي غير زمانهم، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية الشراعية [ ص: 1455 ] منها والنارية، والجوية السابحة في الجو، كالطيور ونحوها، والمراكب البرية مما كانت الآية العظمى فيه لم توجد إلا في الذرية، نبه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال:
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون أي: المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم الله تعالى، ونجاهم بالأسباب التي علمهم الله بها، من الغرق.
(43) ولهذا نبههم على نعمته عليهم حيث أنجاهم من الغرق مع قدرته على ذلك، فقال: وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم أي: لا أحد يصرخ لهم فيعاونهم على الشدة، ولا يزيل عنهم المشقة، ولا هم ينقذون مما هم فيه.
(44) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين حيث لم نغرقهم لطفا بهم، وتمتيعا لهم إلى حين، لعلهم يرجعون، أو يستدركون ما فرط منهم.
(45) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أي: من أحوال البرزخ والقيامة، وما في الدنيا من العقوبات لعلكم ترحمون أعرضوا عن ذلك، فلم يرفعوا به رأسا، ولو جاءتهم كل آية.
(46) ولهذا قال: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وفي إضافة الآيات إلى ربهم، دليل على كمالها ووضوحها، لأنه ما أبين من آيات الله، ولا أعظم بيانا. وإن من جملة تربية الله لعباده أن أوصل إليهم الآيات التي يستدلون بها على ما ينفعهم، في دينهم ودنياهم.
(47) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله أي: من الرزق الذي من به الله عليكم، ولو شاء لسلبكم إياه، قال الذين كفروا للذين آمنوا معارضين للحق، محتجين بالمشيئة: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم أيها المؤمنون لفي ضلال مبين حيث تأمروننا بذلك. وهذا مما يدل على جهلهم العظيم، أو تجاهلهم الوخيم، فإن المشيئة ليست حجة لعاص أبدا، فإنه وإن كان ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإنه تعالى مكن العباد وأعطاهم من القوة ما يقدرون على فعل الأمر واجتناب النهي، فإذا تركوا ما أمروا به كان ذلك اختيارا منهم، لا جبرا لهم ولا قهرا.
(48-49 ويقولون على وجه التكذيب والاستعجال: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .
[ ص: 1456 ] قال الله تعالى: لا يستبعدوا ذلك، فإنه عن قريب ما ينظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة الصور تأخذهم أي: تصيبهم وهم يخصمون أي: وهم لاهون عنها، لم تخطر على قلوبهم في حال خصومتهم، وتشاجرهم بينهم، الذي لا يوجد في الغالب إلا وقت الغفلة.
(50) وإذا أخذتهم وقت غفلتهم، فإنهم لا ينظرون ولا يمهلون فلا يستطيعون توصية أي: لا قليلة ولا كثيرة ولا إلى أهلهم يرجعون .