وقالت اليهود قال ، ابن عباس ، وعكرمة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود ، حتى كانوا من أكثر الناس [ ص: 58 ] مالا وأخصبهم ناحية ، فلما عصوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه ، كف عنهم ما بسط عليهم ، فعند ذلك قال والضحاك فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضوا به ، نسبت تلك العظيمة إلى الكل ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا ، وإنما القاتل واحد منهم . وأرادوا بذلك - لعنهم الله - : أنه تعالى ممسك يقتر بالرزق ، فإن كلا من غل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يد وغل أو بسط ، ألا يرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك ، كما في قوله :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقد سلك لبيد هذا المسلك السديد ، حيث قال :
وغداة ريح قد شهدت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فإنه إنما أراد بذلك إثبات القدرة التامة للشمال على التصرف في القرة كيفما تشاء ، على طريقة المجاز من غير أن يخطر بباله أن يثبت لها يدا ، ولا للقرة زماما . وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي ، كما مر في قوله تعالى : ولا ينظر إليهم يوم القيامة في سورة آل عمران . وقيل : أرادوا ما حكي عنهم بقوله تعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء .
غلت أيديهم دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكنة ، أو بالفقر والنكد ، أو بغل الأيدي حقيقة بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ، ويسحبوا إلى النار بأغلالها في الآخرة ، فتكون المطابقة حينئذ من حيث اللفظ وملاحظة المعنى الأصلي ، كما في : سبني سب الله دابره .
ولعنوا عطف على الدعاء الأول ; أي : أبعدوا من رحمة الله تعالى .
بما قالوا ; أي : بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء . وقيل : كلاهما خبر .
بل يداه مبسوطتان عطف على مقدر يقتضيه المقام ; أي : كلا ليس كذلك ، بل هو في غاية ما يكون من الجود ، وإليه أشير بتثنية اليد ، فإن أقصى ما ينتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا ما يعطونه بكلتا يديهم . وقيل : التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة . وقيل : على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا .
ينفق كيف يشاء جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، وللتنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على تلك الكفرة العظيمة ، والمعنى : أن ذلك ليس لقصور في فيضه ، بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد ، وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيق عليهم ، كما يشير إليه ما سيأتي من قوله عز وجل : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل الآية . و" كيف " ظرف ليشاء ، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير " ينفق " ; أي : ينفق كائنا على أي حال يشاء ; أي : كائنا على مشيئته ; أي : مريدا ، وترك ذكر ما ينفقه لقصد التعميم .
وليزيدن كثيرا منهم وهم علماؤهم ورؤساؤهم .
ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الآيات ، وتقديم المفعول للاعتناء به ، وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لما أن بعضهم ليس كذلك .
من ربك متعلق بأنزل ، كما أن " إليك " كذلك ، وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يتقدم على المنتهي ، لاقتضاء المقام الاهتمام ببيان المنتهي ; لأن مدار الزيادة هو النزول إليه عليه السلام ، كما في قوله تعالى : وأنزل لكم من السماء ماء . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام .
طغيانا وكفرا مفعول ثان للزيادة ; أي : ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين ، إما من حيث الشدة والغلو ، وإما من حيث الكم والكثرة ; إذ كلما نزلت آية كفروا بها ، فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار ، [ ص: 59 ] كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا .
وألقينا بينهم ; أي : بين اليهود ، فإن بعضهم جبرية ، وبعضهم قدرية ، وبعضهم مرجئة ، وبعضهم مشبهة .
العداوة والبغضاء فلا يكاد تتوافق قلوبهم ، ولا تتطابق أقوالهم . والجملة مبتدأ مسوقة لإزاحة ما عسى يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين . قيل : العداوة أخص من البغضاء ; لأن كل عدو مبغض بلا عكس كلي .
إلى يوم القيامة متعلق بألقينا ، وقيل : بالبغضاء .
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين ; أي : كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورتبوا مباديها ، وركبوا في ذلك متن كل صعب وذلول ، ردهم الله تعالى وقهرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة ، سلط الله تعالى عليهم بخت نصر ، ثم أفسدوا ، فسلط الله عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا ، فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا ، فسلط الله عليهم المسلمين . و" للحرب " إما صلة لأوقدوا ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنارا ; أي : كائنة للحرب .
ويسعون في الأرض فسادا ; أي : يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله ، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم ، مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب . و" فسادا " إما مفعول له ، أو في موقع المصدر ; أي : يسعون للفساد ، أو يسعون سعي فساد .
والله لا يحب المفسدين ولذلك أطفأ ثائرة إفسادهم ، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ، وإما للعهد ، ووضع المظهر مقام الضمير للتعليل ، وبيان كونهم راسخين في الإفساد .