ود كثير من أهل الكتاب : هم رهط من أحبار اليهود؛ روي أن فنحاص بن عازوراء؛ وزيد بن قيس؛ ونفرا من اليهود؛ قالوا لحذيفة بن اليمان؛ - رضي الله عنهما - بعد وقعة وعمار بن ياسر أحد: ألم تروا ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحق ما هزمتم؛ فارجعوا إلى ديننا؛ فهو خير لكم؛ وأفضل؛ ونحن أهدى منكم سبيلا؛ فقال كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد؛ قال: فإني عاهدت ألا أكفر عمار: بمحمد - عليه الصلاة والسلام - ما عشت؛ فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ؛ وقال أما أنا فقد رضيت بالله ربا؛ حذيفة: وبمحمد نبيا؛ وبالإسلام دينا؛ وبالقرآن إماما؛ وبالكعبة قبلة؛ وبالمؤمنين إخوانا؛ ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأخبراه؛ فقال: أصبتما خيرا؛ وأفلحتما؛ فنزلت؛ لو يردونكم : حكاية لودادتهم؛ و"لو": في معنى التمني؛ وصيغة الغيبة كما في قوله: حلف ليفعلن؛ وقيل: هي بمنزلة "أن"؛ الناصبة؛ فلا يكون لها جواب؛ وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لـ "ود"؛ والتقدير: ودوا ردكم؛ وقيل: هي على حقيقتها؛ وجوابها محذوف؛ تقديره: لو يردونكم كفارا لسروا بذلك.
من بعد إيمانكم : [ ص: 146 ] متعلق بـ "يردونكم"؛ وقوله (تعالى): كفارا : مفعول ثان له؛ على تضمين الرد معنى التصيير؛ أي: يصيرونكم كفارا؛ كما في قوله:
رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا
... ورد وجوههن البيض سودا
وقيل: هو حال من مفعوله؛ والأول أدخل؛ لما فيه من الدلالة؛ صريحا على كون الكفر المفروض بطريق القسر. وإيراد الظرف - مع عدم الحاجة إليه؛ ضرورة كون المخاطبين مؤمنين؛ واستحالة تحقق الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان؛ مع توسيطه بين المفعولين - لإظهار كمال شناعة ما أرادوه؛ وغاية بعده من الوقوع؛ إما لزيادة قبحه الصارف للعاقل عن مباشرته؛ وإما لممانعة الإيمان له؛ كأنه قيل: من بعد إيمانكم الراسخ؛ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى.
حسدا : علة لـ "ود"؛ أو حال أريد به نعت الجمع؛ أي: حاسدين لكم؛ والحسد: الأسف على من له خير بخيره؛ من عند أنفسهم : متعلق بـ "ود"؛ أي: ودوا ذلك من أجل تشهيهم؛ وحظوظ أنفسهم؛ لا من قبل التدين؛ والميل مع الحق؛ ولو على زعمهم؛ أو: بحسد؛ أي: حسدا منبعثا من أصل نفوسهم؛ بالغا أقصى مراتبه؛ من بعد ما تبين لهم الحق ؛ بالمعجزات الساطعة؛ وبما عاينوا في التوراة من الدلائل؛ وعلموا أنكم متمسكون به؛ وهم منهمكون في الباطل؛ فاعفوا واصفحوا ؛ العفو: ترك المؤاخذة؛ والعقوبة؛ والصفح: ترك التثريب؛ والتأنيب؛ حتى يأتي الله بأمره ؛ الذي هو قتل بني قريظة؛ وإجلاء بني النضير؛ وإذلالهم بضرب الجزية عليهم؛ أو الإذن في القتال؛ وعن - رضي الله عنهما -: إنه منسوخ بآية السيف؛ ولا يقدح في ذلك ضرب الغاية؛ لأنها لا تعلم إلا شرعا؛ ولا يخرج الوارد بذلك من أن يكون ناسخا؛ كأنه قيل: فاعفوا؛ واصفحوا؛ إلى ورود الناسخ. ابن عباس إن الله على كل شيء قدير ؛ فينتقم منهم إذا حان حينه؛ وآن أوانه؛ فهو تعليل لما دل عليه ما قبله.