سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين
وقوله تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض استئناف مسوق لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات ، التي هي ما كتب في ألواح التوراة من المواعظ والأحكام ، أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية ، التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ، ومعنى صرفهم عنها : الطبع على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر ، كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .
وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح ، لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل ; أي : سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ، ويرون لهم على الخلق مزية وفضلا ، فلا ينتفعون بآياتي التنزيلية والتكوينية ، ولا يغتنمون مغانم آثارها ، فلا تسلكوا مسلكهم لتكونوا أمثالهم .
وقيل : المعنى : سأصرفهم عن إبطالها ، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات ، فأبى الله تعالى إلا إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، وعلى هذا فالأنسب أن يراد بدار الفاسقين : أرض الجبابرة والعمالقة المشهورين بالفسق والتكبر في الأرض ، وبإراءتها للمخاطبين إدخالهم الشام وإسكانهم في مساكنهم ومنازلهم ، حسبما نطق به قوله تعالى : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم .
ويكون قوله تعالى : " سأصرف عن آياتي ... " إلخ ، جوابا عن سؤال مقدر ناشئ من الوعد بإدخال الشام ، على أن المراد بالآيات : ما تلي آنفا ونظائره ، وبصرفهم عنها : إزالتهم عن مقام معارضتها وممانعتها ، لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاة والسلام ، حين سار بعد التيه بمن بقي من بني إسرائيل [ ص: 272 ] أو بذرياتهم ، على اختلاف الروايتين إلى أريحا ، ويوشع بن نون في مقدمته ، ففتحها واستقر بنو إسرائيل بالشام ، وملكوا مشارقها ومغاربها ، كأنه قيل : كيف يرون دارهم وهم فيها ؟ فقيل : سأهلكهم ، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها .
وقوله تعالى : بغير الحق إما صلة للتكبر ; أي : يتكبرون بما ليس بحق ، وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط ، أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله ; أي : يتكبرون ملتبسين بغير الحق .
وقوله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها عطف على يتكبرون ، داخل معه في حكم الصلة ، والمراد بالآية : إما المنزلة ; فالمراد برؤيتها : مشاهدتها بسماعها ، أو ما يعمها وغيرها من المعجزات ; فالمراد برؤيتها : مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار ; أي : وإن يشاهدوا كل آية من الآيات لا يؤمنوا بها على عموم النفي لا على نفي العموم ; أي : كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هي ، وهذا كما ترى يؤيد كون الصرف بمعنى الطبع .
وقوله تعالى : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا عطف على ما قبله داخل في حكمه ; أي : لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلكون سبيله أصلا ، لاستيلاء الشيطنة عليهم ومطبوعيتهم على الانحراف والزيغ ، وقرئ بفتحتين ، وقرئ : ( الرشاد ) ، وثلاثتها لغات ، كالسقم والسقم والسقام .
وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ; أي : يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه ، لموافقته لأهوائهم الباطلة ، وإفضائه بهم إلى شهواتهم .
ذلك إشارة إلى ما ذكر من تكبرهم ، وعدم إيمانهم بشيء من الآيات ، وإعراضهم عن سبيل الرشد ، وإقبالهم التام إلى سبيل الغي ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : بأنهم ; أي : حاصل بسبب أنهم .
كذبوا بآياتنا الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح ، وعلى حقية أضدادها .
وكانوا عنها غافلين لا يتفكرون فيها ، وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل ، ويجوز أن يكون إشارة إلى ما ذكر من الصرف ، ولا يمنعه الإشعار بعلية ما في حيز الصلة ، كيف لا وقد مر أن ذلك في قوله تعالى : ذلك بما عصوا ... الآية ، يجوز أن يكون إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة ، والبوء بالغضب العظيم ، مع كون ذلك معللا بالكفر بآيات الله صريحا .
وقيل : محل اسم الإشارة النصب على المصدر ; أي : سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها .