قوله عز وجل:
ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا
هذه مبالغة في صفتهم، ومدح لهم، وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة. وحكى عن الطبري التيمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه; لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: إن الذين أوتوا العلم من قبله إلى آخر الآيتين.
وقوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية.
سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: يا الله، يا الرحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين. قاله رضي الله عنهما. وقال ابن عباس : تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال في دعائه: يا رحمن يا رحيم، [ ص: 558 ] فسمعه رجل من المشركين -وكان مكي باليمامة رجل يسمى الرحمان- فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة، فنزلت الآية مبينة أنها أسماء لشيء واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك.
وقرأ : "أيا من تدعو فله الأسماء الحسنى"، أي: وله سائر طلحة بن مصرف أي التي تقتضي أفضل الأوصاف. الأسماء الحسنى،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهي بتوقيف، لا يصح وضع اسم الله تعالى إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث . وقد روي: ... الحديث، ونصها كلها "إن لله تسعة وتسعين اسما" وغيره بسند صحيح. وتقدير الآية: أي الأسماء تدعو به فأنت مصيب، له الأسماء الحسنى. الترمذي
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجهر بصلاته، وألا يخافت بها، وهو الإسرار الذي يسمعه المتكلم به، هذه هي حقيقته، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه. واختلف المتأولون في "الصلاة"، ما هي؟ فقال ، ابن عباس رضي الله عنهما، وجماعة: هي الدعاء. وقال وعائشة أيضا: هي قراءة القرآن في الصلاة، فهذا على حذف مضاف، التقدير: ولا تجهر بقراءة صلاتك، قال: والسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوسط، ليسمع أصحابه المصلون معه ويذهب عنه أذى المشركين. وقال ابن عباس كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك، وكان ابن سيرين: رضي الله عنه يسر قراءته، وكان أبو بكر رضي الله عنه يجهر بها، فقيل لهما في ذلك، فقال [ ص: 559 ] عمر إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي، وقال أبو بكر: أنا أطرح الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل عمر: رضي الله عنه: ارفع أنت قليلا، وقيل لأبي بكر رضي الله عنه: اخفض أنت قليلا. وقالت لعمر أيضا رضي الله عنها: الصلاة يراد بها في هذه الآية التشهد، وقال عائشة ، ابن عباس : المراد: لا تحسن صلاتك في الجهر، ولا تسئها في السر، بل اتبع طريقا وسطا يكون دائما في كل حالة. وقال والحسن : معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه، ويخفض أحيانا فيسكت من خلفه. وقال ابن زيد رضي الله عنهما في الآية: إن معناها: ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل، وابتغ سبيلا من امتثال الأمر كما رسم لك، ذكره ابن عباس يحيى بن سلام، . وقال والزهراوي رضي الله عنه: لم يخافت من أسمع أذنه. عبد الله بن مسعود
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وما روي من أنه قيل رضي الله عنه: "ارفع أنت قليلا" يرد هذا، ولكن الذي قال لأبي بكر رضي الله عنه هو أصل اللغة، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في أرفع من ذلك. ابن مسعود
وقوله تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا . هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: "عزير وعيسى والملائكة ذرية لله"، سبحانه وتعالى عن أقوالهم ورادة على العرب في قولهم: "لولا أولياء الله لذل"، وقيد لفظ الآية نفي الولاية لله عز وجل بطريق الذل، وعلى جهة الانتصار; إذ ولايته موجودة بتفضله ورحمته لمن والى من صالح عباده. قال : المعنى: لم يحالف أحدا، ولا ابتغ نصر أحد. مجاهد
وقوله: وكبره تكبيرا أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، ثم أكدها بالمصدر تحقيقا لها، وإبلاغا في معناها.
[ ص: 560 ] وروى عن مطرف عبد الله بن كعب قال: "افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة".
نجز تفسير سورة الإسراء ولله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم