قوله - عز وجل -:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون
هذا خطاب عام لجميع العالم؛ وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها.
[ ص: 549 ] و"الزينة"؛ ههنا: الثياب الساترة؛ قاله ؛ مجاهد ؛ وقال والسدي : الشملة من الزينة. طاوس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة؛ والسواك؛ وبدل الثياب؛ وكل ما وجد استحسانه في الشريعة؛ ولم يقصد به مستعمله الخيلاء.
و عند كل مسجد ؛ عند كل موضع سجود؛ فهي إشارة إلى الصلوات؛ وستر العورة فيها؛ هذا هو مهم الأمر؛ ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها؛ ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة؛ وغير ذلك؛ وذكر حديثا أن معنى مكي خذوا زينتكم ؛ صلوا في النعال؛ وما أحسبه يصح.
وقوله تعالى وكلوا واشربوا ؛ نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم؛ والودك؛ في أيام الموسم؛ قاله السدي ؛ وتدخل مع ذلك أيضا البحيرة؛ والسائبة؛ ونحو ذلك؛ وقد نص على ذلك وابن زيد ؛ وقال: إن البحيرة؛ وما جانسها؛ هي المراد بقوله تعالى قتادة والطيبات من الرزق .
وقوله تعالى ولا تسرفوا ؛ معناه: "ولا تفرطوا"؛ قال أهل التأويل: يريد: "ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله - عز وجل"؛ قال - رضي الله عنهما -: ليس في الحلال سرف؛ إنما السرف في ارتكاب المعاصي. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: يريد: "في الحلال القصد"؛ واللفظ يقتضي مطلقا؛ فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به؛ حصل من المسرفين؛ وتوجه النهي عليه؛ ومن تلبس بفعل مباح؛ فإن مشى فيه على القصد؛ وأوساط الأمور؛ فحسن؛ وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضا من المسرفين؛ وتوجه النهي عليه؛ مثل ذلك: "أن يفرط الإنسان في شراء ثياب؛ ونحوها؛ ويستنفد في ذلك جل ماله؛ أو يعطي ماله أجمع؛ ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك"؛ [ ص: 550 ] ونحوه؛ فالله - عز وجل - لا يحب شيئا من هذا؛ وقد نهت الشريعة عنه؛ ولذلك وقف النبي - عليه الصلاة والسلام - بالموصي عند الثلث؛ وقال بعض العلماء: لو حط الناس إلى الربع لقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: "والثلث كثير"؛ وقد قال النهي عن السرف - رضي الله عنهما - في هذه الآية -: أحل الله تعالى الأكل والشرب؛ ما لم يكن سرفا؛ أو مخيلة. ابن عباس
وأمر الله - عز وجل - نبيه - عليه الصلاة والسلام - أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله تعالى ؛ على جهة التوبيخ والتقرير؛ وليس يقتضي هذا السؤال جوابا؛ وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل؛ وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاءا في هذه الآية من جهة واحدة؛ وتخيل قوله - تبارك وتعالى -: قل هي للذين آمنوا جوابا.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا نظر فاسد؛ ليس ذلك بجواب السؤال؛ ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جوابا؛ و"زينة الله"؛ هي كل ما اقتضته الشهوة؛ وطلب العلو في الأرض؛ كالمال؛ والبنين؛ وهي الزينة التي فضل الشرع عليها.
وقوله تعالى والطيبات من الرزق ؛ قال الجمهور: يريد: المحللات؛ وقال وغيره: يريد: المستلذات. الشافعي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: إلا أن ذلك - ولا بد - يشترط فيه أن يكون من الحلال؛ وإنما قاد إلى هذا تحريمه المستقذرات؛ كالوزغ؛ وغيرها؛ فإنه يقول: هي من الخبائث؛ محرمة. الشافعي
وقوله تعالى قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة .
قرأ ؛ وحده: "خالصة"؛ بالرفع؛ والباقون: "خالصة"؛ بالنصب؛ والآية تتأول على معنيين. نافع
أحدهما: أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها؛ ولا يعذبون؛ فقوله تعالى في الحياة الدنيا ؛ متعلق بـ "آمنوا"؛ وإلى هذا يشير تفسير ؛ فإنه قال: "قل [ ص: 551 ] هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ ينتفعون بها في الدنيا؛ ولا يتبعهم إثمها"؛ وقوله: سعيد بن جبير "خالصة"؛ بالرفع؛ خبر "هي"؛ و"للذين"؛ تبيين للخلوص؛ ويصح أن يكون "خالصة"؛ خبرا بعد خبر؛ و"يوم القيامة"؛ يريد به وقت الحساب؛ وقرأ قتادة : "قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا". والكسائي
والمعنى الثاني: هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات؛ هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا؛ وإن كانت أيضا لغيرهم معهم؛ وهي يوم القيامة خالصة لهم؛ أي لا يشاركهم أحد في استعمالها في الآخرة؛ وهذا قول ؛ ابن عباس ؛ والضحاك ؛ والحسن ؛ وقتادة ؛ والسدي ؛ وابن جريج ؛ فقوله تعالى وابن زيد في الحياة الدنيا - على هذا التأويل - متعلق بالمحذوف المقدر في قوله - سبحانه -: للذين آمنوا ؛ كأنه قال: "هي خالصة - أو ثابتة - في الحياة الدنيا للذين آمنوا"؛ و"خالصة"؛ بالرفع؛ خبر بعد خبر؛ أو خبر ابتداء مقدر؛ تقديره: وهي خالصة يوم القيامة؛ و"يوم القيامة"؛ يراد به استمرار الكون في الجنة؛ وأما من نصب "خالصة"؛ فعلى الحال من الذكر الذي في قوله تعالى للذين آمنوا ؛ والتقدير: "هي ثابتة - أو مستقرة - للذين آمنوا؛ في حال خلوص لهم"؛ والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل؛ في قوله - سبحانه -: للذين ؛ وقال في "الحجة": ويصح أن يتعلق قوله تعالى أبو علي في الحياة الدنيا ؛ بقوله: "حرم"؛ ولا يصح أن يتعلق بـ "زينة" لأنها مصدر قد وصف؛ ويصح أن يتعلق بقوله - تبارك وتعالى -: أخرج لعباده ؛ ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله: قل هي للذين آمنوا ؛ لأن ذلك كلام يشد القصة؛ وليس بأجنبي منها جدا؛ كما جاء في قوله تعالى والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ؛ فقوله تعالى وترهقهم ذلة ؛ معطوف على "كسبوا"؛ داخل في الصلة؛ والتعلق بـ "أخرج"؛ هو قول ؛ ويصح أن يتعلق بقوله: الأخفش "والطيبات"؛ ويصح أن يتعلق بقوله - تبارك وتعالى -: من الرزق ؛ ويصح أن يتعلق بقوله: "آمنوا".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا الأخير هو أصح الأقوال؛ على هذا التأويل الأول؛ فيما رتبناه هنا؛ وأما على التأويل [ ص: 552 ] الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر ؛ وإنما يظهر أن يتعلق بالمحذوف المقدر في قوله: أبو علي للذين آمنوا .
وقوله تعالى "كذلك"؛ تقدير الكلام: أي: "كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك؛ وعلى تلك الصورة؛ نفصل الآيات - أي: "نبين الأمارات؛ والعلامات؛ والهدايات -؛ لقوم لهم علم ينتفعون به"؛ و"نفصل" معناه: نقسم؛ ونبين؛ لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول.