قوله - عز وجل -:
فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[ ص: 535 ] فدلاهما بغرور ؛ يريد: فغرهما بقوله؛ وخدعهما بمكره.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من "الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم؛ أو بسبب ضعيف يغتر به؛ فإذا تدلى به وتورك عليه؛ انقطع به؛ فهلك"؛ فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه؛ فيقع في مصيبة؛ بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف.
وعلق حكم العقوبة بالذوق؛ إذ هو أول الأكل؛ وبه يرتكب النهي؛ وفي آية أخرى: فأكلا منها .
؛ وقوله تعالى "بدت"؛ قيل: تخرقت عنهما ثياب الجنة؛ وملابسها؛ وتطايرت تبريا منهما؛ وقال : كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما؛ فانقشع بالمعصية ذلك النور؛ وقال وهب بن منبه ؛ ابن عباس : كان عليهما ظفر كاس؛ فلما عصيا تقلص عنهما؛ فبدت سوءاتهما؛ وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية؛ فيجددان الندم. وقتادة
"وطفقا"؛ معناه: أخذا؛ وجعلا؛ وهو فعل لا يختص بوقت؛ كـ "بات"؛ و"ظل".
و"يخصفان"؛ معناه: يلصقانها؛ ويضمان بعضها إلى بعض؛ و"المخصف": الإشفى؛ وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة.
وقرأ جمهور الناس: "يخصفان"؛ من "خصف"؛ وقرأ : "يخصفان"؛ بشد الصاد؛ [ ص: 536 ] وقرأ عبد الله بن بريدة : "يخصفان"؛ من "أخصف"؛ وقرأ الزهري - فيما روى عنه الحسن محبوب: "يخصفان"؛ بفتح الياء؛ والخاء؛ وكسر الصاد؛ وشدها؛ ورويت عن ابن بريدة ؛ وعن وأصلها "يختصفان"؛ كما تقول: "سمعت الحديث"؛ و"استمعته"؛ فأدغمت التاء في الصاد؛ ونقلت حركتها إلى الخاء؛ وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه؛ لكن لما سكنت التاء؛ وأدغمت في الصاد؛ اجتمع ساكنان؛ فكسرت الخاء؛ على عرف التقاء الساكنين؛ وقرأ يعقوب؛ الحسن؛ ؛ والأعرج : "يخصفان"؛ بفتح الياء؛ وكسر الخاء؛ وكسر الصاد؛ وشدها؛ وقد تقدم تعليلها. ومجاهد
قال - رضي الله عنهما -: إن الورق الذي خصف منه ورق التين؛ وروى ابن عباس عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أبي أن آدم - عليه السلام - كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سموق؛ فلما واقع المعصية وبدت له حاله فر على وجهه؛ فأخذت شجرة بشعر رأسه؛ يقال: إنها الزيتونة؛ فقال لها: "أرسليني"؛ فقالت: ما أنا بمرسلتك؛ فناداه ربه: (أمني تفر يا آدم؟)؛ قال: "لا يا رب؛ ولكني استحيتك"؛ قال: (أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟)؛ قال: "بلى يا رب؛ ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا"؛ قال: (فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض؛ ثم لا تنال العيش إلا كدا).
وقوله تعالى "وناداهما"؛ الآية؛ قال الجمهور: إن هذا النداء نداء وحي؛ بواسطة؛ ويؤيد ذلك أنا نتلقى من الشرع أن موسى - عليه السلام - هو الذي خصص بين العالم بالكلام؛ وأيضا ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين يقولون لموسى - عليه السلام - يوم القيامة: "أنت خصك الله بكلامه؛ واصطفاك برسالته؛ اذهب فاشفع للناس"؛ وهذا ظاهره أنه مخصص؛ وقالت فرقة: بل هو نداء تكليم.
[ ص: 537 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة آدم - عليه السلام -؛ فقال: "نبي مكلم"؛ وأيضا فإن أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - سئل عن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض؛ وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض؛ فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى - عليه السلام -؛ ويؤيد أنه نداء وحي؛ اشتراك حواء فيه؛ ولم يرو قط أن الله - عز وجل - كلم حواء؛ ويتأول قوله - عليه الصلاة والسلام -؛ أنه بمعنى: موصل إليه كلام الله تعالى . "نبي مكلم"؛
وقوله - عز وجل -: ألم أنهكما ؛ سؤال تقرير؛ يتضمن التوبيخ؛ وقوله تعالى "تلكما"؛ يؤيد - بحسب ظاهر اللفظ - أنه إنما أشار إلى شخص شجرة؛ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ؛ إشارة إلى الآية التي في سورة "طـه"؛ في قوله تعالى فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا هو العهد الذي نسيه آدم - عليه السلام -؛ على مذهب من يجعل النسيان على بابه؛ وقرأ : "ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما"؛ وقولهما: أبي بن كعب ربنا ظلمنا أنفسنا ؛ اعتراف من آدم؛ وحواء - عليهما السلام -؛ وطلب للتوبة؛ والستر؛ والتغمد بالرحمة؛ فطلب آدم - عليه السلام - هذا؛ وطلب إبليس النظرة؛ ولم يطلب التوبة؛ فوكل إلى رأيه؛ قال : هذه الآية هي الكلمات التي تلقى الضحاك آدم - عليه السلام - من ربه تعالى .