قوله - عز وجل -:
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام
الخطاب لجميع المؤمنين؛ وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل: "ليبلونكم"؛ والصيد مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد؛ ولفظ [ ص: 254 ] الصيد هنا عام؛ ومعناه الخصوص؛ فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - قتله في الحرم؛ ثبت عنه - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: ووقف مع ظاهر هذا الحديث "خمس فواسق يقتلن في الحرم: الغراب؛ والحدأة؛ والفأرة؛ والعقرب؛ والكلب العقور"؛ ؛ سفيان الثوري ؛ والشافعي ؛ وأحمد بن حنبل ؛ فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر؛ وقاس؛ وإسحاق بن راهويه - رحمه الله - على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم؛ ورآه داخلا في اللفظ؛ فقال: مالك مبتدئا بها؛ فأما الهر؛ والثعلب؛ والضبع فلا يقتلها المحرم؛ وإن قتلها فدى؛ وقال أصحاب الرأي: إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله؛ وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته؛ وقال للمحرم أن يقتل الأسد؛ والنمر؛ والفهد؛ والذئب؛ وكل السباع العادية؛ ؛ مجاهد : لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه؛ وقال والنخعي : ما حل بك من السباع فحل به؛ وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس؛ فقال ابن عمر في "المدونة": لا ينبغي للمحرم قتلها؛ قال مالك في كتاب "محمد": فإن فعل فعليه الجزاء؛ وقال أيضا أشهب أشهب؛ وابن القاسم : لا جزاء عليه؛ وثبت عن - رضي الله عنه - أنه أمر المحرمين بقتل الحيات؛ وأجمع الناس على إباحة قتلها؛ وثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إباحة قتل الزنبور؛ لأنه في حكم العقرب؛ وقال عمر : يطعم قاتله شيئا؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث؛ والذباب؛ والنمل؛ ونحوه؛ وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها؛ وأما مالك : لا يقتلها المحرم؛ مالك وإن فعل فدى؛ وقال سباع الطير فقال ابن القاسم في كتاب "محمد": وأحب إلي ألا يقتل الغراب؛ والحدأة؛ حتى يؤذياه؛ ولكن إن فعل فلا شيء عليه.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وذوات السموم كلها في حكم الحية؛ كالأفعى؛ والرتيلا؛ وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد؛ أو بالحال؛ وفرض الجزاء على من قتله.
[ ص: 255 ] و"حرم": جمع "حرام"؛ وهو الذي يدخل في الحرم؛ أو في الإحرام؛ وحرام؛ يقال للذكر؛ والأنثى؛ والاثنين؛ والجمع.
واختلف العلماء في معنى قوله: "متعمدا"؛ فقال ؛ مجاهد ؛ وابن جريج ؛ والحسن : معناه: متعمدا لقتله؛ ناسيا لإحرامه؛ فهذا هو الذي يكفر؛ وكذلك الخطأ المحض يكفر؛ وأما إن قتله متعمدا؛ ذاكرا لإحرامه؛ فهذا أجل وأعظم من أن يكفر؛ وقال وابن زيد : قد حل؛ ولا رخصة له؛ وقاله مجاهد ؛ وحكى ابن جريج المهدوي وغيره أنه بطل حجه؛ وقال : هذا يوكل إلى نقمة الله. وقال جماعة من أهل العلم - منهم ابن زيد ؛ ابن عباس ؛ وعطاء ؛ وسعيد بن جبير ؛ والزهري ؛ وغيرهم -: المتعمد هو القاصد للقتل؛ الذاكر لإحرامه؛ وهو يكفر؛ وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران؛ قال وطاوس : نزل القرآن بالعمد؛ وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران؛ وقال بعض الناس: لا يلزم القاتل خطأ كفارة. الزهري
وقرأ ؛ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وأبو عمرو : "فجزاء مثل ما"؛ بإضافة الجزاء إلى "مثل"؛ وخفض "مثل"؛ وقرأ وابن عامر ؛ حمزة ؛ والكسائي : "فجزاء"؛ بالرفع؛ "مثل"؛ بالرفع أيضا؛ فأما القراءة الأولى؛ ومعناها: "فعليه جزاء مثل ما قتل؛ أي قضاؤه؛ وغرمه"؛ ودخلت لفظة "مثل" هنا كما تقول: "أنا أكرم مثلك"؛ وأنت تقصد بقولك: "أنا أكرمك"؛ ونظير هذا قوله تعالى: وعاصم أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ؛ التقدير: "كمن هو في الظلمات".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل قوله تعالى: "فجزاء مثل"؛ أن يكون المعنى: "فعليه أن يجزي مثل ما"؛ ثم وقعت الإضافة إلى المثل؛ الذي يجزى به؛ اتساعا.
وأما القراءة الثانية فمعناها: "فالواجب عليه"؛ أو: "فاللازم له جزاء مثل ما"؛ و"مثل"؛ على هذه القراءة؛ صفة لـ "جزاء"؛ أي: "فجزاء مماثل".
وقوله تعالى: "من النعم"؛ صفة لـ "جزاء"؛ على القراءتين كلتيهما؛ وقرأ : "فجزاؤه مثل ما"؛ بإظهار هاء؛ يحتمل أن تعود على الصيد؛ [ ص: 256 ] أو على الصائد القاتل؛ وقرأ عبد الله بن مسعود : "فجزاء"؛ بالرفع؛ والتنوين؛ "مثل ما"؛ بالنصب؛ وقال أبو الفتح: "مثل"؛ منصوبة بنفس الجزاء؛ أي: "فعليه أن يجزي مثل ما قتل". أبو عبد الرحمن
واختلف العلماء في هذه المماثلة: كيف تكون؟ فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة؛ وعظم المرأى؛ [فيجعلان] ذلك من النعم جزاءه؛ قال ؛ الضحاك بن مزاحم ؛ وجماعة من الفقهاء: في النعامة؛ وحمار الوحش؛ ونحوه بدنة؛ وفي الوعل؛ والإبل؛ ونحوه بقرة؛ وفي الظبي؛ ونحوه كبش؛ وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم؛ وفي اليربوع حمل صغير؛ وما كان من جرادة؛ ونحوها؛ ففيها قبضة طعام؛ وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاما؛ فإن شاء تصدق به؛ وإن شاء صام لكل صاع يوما؛ وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد ما أصاب من بكارة الإبل؛ فما نتج منها أهداه إلى البيت؛ وما فسد منها فلا شيء عليه فيه. والسدي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: حكم - رضي الله عنه - على عمر قبيصة بن جابر في الظبي بشاة؛ وحكم هو ؛ قال وعبد الرحمن بن عوف قبيصة : فقلت له: يا أمير المؤمنين ؛ إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك؛ قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا؛ ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في "الموطأ"؛ بغير هذه الألفاظ؛ وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة؛ وقبيصة هو راويها فيهما؛ والله أعلم؛ وأما الأرنب؛ واليربوع؛ ونحوها فالحكم فيه عند أن يقوم طعاما؛ فإن شاء تصدق به؛ وإن شاء صام بدل كل مد يوما؛ وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد؛ وعند قوم: بدل صاع؛ وعند قوم: بدل مدين؛ وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة؛ وفي الحمام غيره حكومة؛ وليس كحمام الحرم؛ وأما بيض النعام؛ وسائر الطير؛ ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه؛ قال مالك ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن؛ ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر؛ فإن استهل ففيه الجزاء كاملا؛ كجزاء كبير ذلك [ ص: 257 ] الطير؛ قال بحكومة عدلين؛ وقال ابن المواز: : إن كان في بيضة النعامة؛ فما دونها؛ فرخ؛ فعشر ثمن أمه؛ وإن لم يكن؛ فصيام يوم؛ أو مد لكل مسكين. ابن وهب
وذهبت فرقة من أهل العلم - منهم ؛ وغيره - إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة؛ النخعي ورد يقوم الصيد المقتول؛ ثم يشترى بقيمته نده من النعم؛ ثم يهدى؛ وغيره على هذا القول. الطبري
والنعم: لفظ يقع على الإبل؛ والبقر؛ والغنم؛ إذا اجتمعت هذه الأصناف؛ فإذا انفرد كل صنف لم يقل "نعم"؛ إلا للإبل وحدها؛ وقرأ الحسن: "من النعم"؛ بسكون العين؛ وهي لغة؛ والجزاء إنما يجب بقتل الصيد؛ لا بنفس أخذه؛ بحكم لفظ الآية؛ وذلك في "المدونة"؛ ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا؛ فنتف ريشه؛ ثم حبسه حتى نسل ريشه؛ فطار؛ قال: لا جزاء عليه؛ وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين؛ عالمين بحكم النازلة؛ وبالتقدير فيها؛ وحكم ؛ عمر - رضي الله عنهما -؛ وأمر وعبد الرحمن بن عوف أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها؛ قال: فأتيت عبد الرحمن ؛ وسعدا؛ فحكما علي تيسا أعفر؛ ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء؛ وعلى هذا جمهور الناس؛ وفقهاء الأمصار.
وقال - رحمه الله - في "العتبية": من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد؛ كما خيره الله ؛ في أن يخرج هديا بالغ الكعبة؛ أو كفارة؛ طعام مساكين؛ أو عدل ذلك صياما؛ فإن اختار الهدي؛ حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب؛ ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك؛ شاة؛ لأنها أدنى الهدي؛ فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام؛ ثم خير في أن يطعمه؛ أو يصوم مكان كل مد يوما؛ وكذلك قال ابن وهب في "المدونة": إذا أراد المصيب أن يطعم؛ أو يصوم؛ وإن كان لما أصاب نظير من النعم؛ فإنه يقوم صيده طعاما؛ لا دراهم؛ قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا؛ والأول [ ص: 258 ] أصوب؛ فإن شاء أطعمه؛ وإلا صام مكانه لكل مد يوما؛ وإن زاد ذلك على شهرين؛ أو ثلاثة. مالك
وقال ؛ من أصحابنا: إنما يقال: كم من رجل يشبع من هذا الصيد؟ فيعرف العدد؛ ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام؛ وإن شاء صام عدد أمداده. يحيى بن عمر
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول حسن؛ احتاط فيه؛ لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة؛ فبهذا النظر يكثر الطعام؛ ومن أهل العلم من يرى ألا يتجاوز في صيام الجزاء شهران؛ قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام.
وقوله تعالى: هديا بالغ الكعبة ؛ يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ؛ وذكرت الكعبة لأنها أم الحرم؛ ورأس الحرمة؛ والحرم كله منحر لهذا الهدي؛ فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى؛ وما لم يوقف به فينحر بمكة؛ وفي سائر بقاع الحرم؛ بشرط أن يدخل من الحل؛ لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم؛ حتى يكون بالغا الكعبة.
وقرأ : "هديا بالغ الكعبة"؛ بكسر الدال؛ وتشديد الياء. عبد الرحمن الأعرج
و"هديا" نصب على الحال من الضمير في "به"؛ وقيل: على المصدر؛ و"بالغ"؛ نكرة في الحقيقة؛ لم تزل الإضافة عنه الشياع؛ فتقديره: "بالغا الكعبة"؛ حذف تنوينه تخفيفا.
وقرأ ؛ ابن كثير ؛ وعاصم ؛ وأبو عمرو ؛ وحمزة : "أو كفارة"؛ منونا؛ "طعام مساكين"؛ برفع "طعام"؛ وإضافته إلى جمع المساكين؛ وقرأ والكسائي ؛ نافع برفع الكفارة؛ دون تنوين؛ وخفض الطعام؛ على الإضافة؛ و"مساكين"؛ بالجمع؛ قال وابن عامر : إعراب "طعام"؛ في قراءة من رفعه؛ أنه عطف بيان؛ لأن الطعام هو الكفارة؛ ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام؛ إنما هي لقتل الصيد. أبو علي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام؛ وفي هذا نظر؛ لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام؛ فالكفارة غير الطعام؛ لكنها به؛ فيتجه في رفع الطعام البدل [ ص: 259 ] المحض؛ وتتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص؛ إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي؛ أو كفارة طعام؛ أو كفارة صيام.
وقرأ ؛ الأعرج : "أو كفارة"؛ بالرفع؛ والتنوين؛ "طعام"؛ بالرفع دون تنوين؛ "مسكين"؛ على الإفراد؛ وهو اسم جنس. وعيسى بن عمر
وقال - رحمه الله - وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة؛ وإن كان غنيا؛ وهذا عندهم مقتضى "أو"؛ وقال مالك ؛ وجماعة: لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا؛ وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم؛ وقاله ابن عباس ؛ إبراهيم النخعي ؛ قالوا: والمعنى: أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي. وحماد بن أبي سليمان
- رحمه الله -؛ وجماعة معه؛ يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول؛ يقوم بالطعام؛ كما تقدم؛ وقال العراقيون: إنما يقوم الجزاء طعاما؛ فمن قتل ظبيا قوم الظبي؛ عند ومالك ؛ وقوم عدله من الكباش؛ أو غير ذلك؛ عند مالك وغيره. وحكى أبي حنيفة عن الطبري - رضي الله عنهما - أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم؛ فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به؛ وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم؛ ثم قومت الدراهم حنطة؛ ثم صام مكان كل نصف صاع يوما؛ قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم؛ ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء؛ وأسنده أيضا عن ابن عباس . السدي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية؛ فإنه ينافره؛ والهدي لا يكون إلا في الحرم؛ كما ذكرنا قبل.
واختلف الناس في الطعام؛ فقال جماعة من العلماء: الإطعام؛ والصيام؛ حيث شاء المكفر من البلاد؛ وقال ؛ وغيره: الهدي والإطعام بمكة؛ والصوم حيث شئت. عطاء بن أبي رباح
[ ص: 260 ] وقوله تعالى: أو عدل ذلك صياما ؛ قرأ الجمهور بفتح العين؛ ومعناه: نظير الشيء؛ بالموازنة؛ والمقدار المعنوي؛ وقرأ ؛ ابن عباس ؛ والجحدري: "أو عدل"؛ بكسر العين؛ قال وطلحة بن مصرف : ورواه أبو عمرو الداني - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم. ابن عباس
وقال بعض الناس: "العدل" - بالفتح -: قدر الشيء من غير جنسه؛ و"عدله" - بالكسر - قدره من جنسه؛ نسبها إلى مكي ؛ وهو وهم؛ والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان في المثل؛ وهذه المنسوبة عبارة معترضة؛ وإنما مقصد قائلها أن "العدل"؛ بالكسر؛ قدر الشيء موازنة على الحقيقة؛ كعدلي البعير؛ و"عدله": قدره من شيء آخر؛ موازنة معنوية؛ كما يقال في ثمن فرس: هذا عدله من الذهب؛ ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت. الكسائي
والإشارة بـ "ذلك"؛ في قوله: "أو عدل ذلك"؛ يحتمل أن تكون إلى الطعام؛ وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء: الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد؛ أو الأصواع؛ أو أنصافها؛ حسب الخلاف الذي قد ذكرته؛ في ذلك؛ ويحتم أن تكون الإشارة بـ "ذلك"؛ إلى الصيد المقتول؛ وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء: إنما هو على قدر المقتول؛ وقال الصوم في قتل الصيد - رضي الله عنهما -: إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين؛ فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل أيلا فعليه بقرة؛ فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا؛ فإن لم يجد صام عشرين يوما؛ وإن قتل نعامة؛ أو حمار وحش؛ فعليه بدنة؛ فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا؛ فإن لم يجد صام ثلاثين يوما. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد تقدم - رضي الله عنهما - قول غير هذا آنفا؛ حكاهما عنه لابن عباس مسندين؛ ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان. الطبري
وقال - في تفسير قوله تعالى: سعيد بن جبير أو عدل ذلك صياما -؛ قال: يصوم ثلاثة أيام؛ إلى عشرة.
وقوله تعالى: ليذوق وبال أمره ؛ الذوق هنا مستعار؛ كما قال تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم ؛ وكما قال: فأذاقها الله لباس الجوع ؛ وكما قال أبو [ ص: 261 ] سفيان : "ذق عقق"؛ وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان؛ وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس؛ والوبال: سوء العاقبة؛ والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله؛ وعبر بـ "أمره"؛ عن جميع حاله؛ من قتل؛ وتكفير؛ وحكم عليه؛ ومضي ماله؛ أو تعبه بالصيام.
واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: عفا الله عما سلف ؛ فقال ؛ وجماعة معه: معناه: "عفا الله عما سلف في جاهليتكم؛ من قتلكم الصيد في الحرمة؛ ومن عاد الآن في الإسلام؛ فإن كان مستحلا؛ فينتقم الله منه في الآخرة؛ ويكفر في ظاهر الحكم؛ وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط"؛ قالوا: وكلما عاد المحرم فهو مكفر. عطاء بن أبي رباح
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير؛ وهذا هو قول الفقهاء؛ ونظائره؛ وأصحابه - رحمهم الله -؛ وقال مالك - رضي الله عنهما -: ابن عباس فإنه يكفر في كل مرة؛ فأما المتعمد العالم بإحرامه؛ فإنه يكفر أول مرة؛ وعفا الله عن ذنبه مع التكفير؛ فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه؛ ويقال له: ينتقم الله منك؛ كما قال الله ؛ وقال بهذا القول المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه؛ ؛ شريح القاضي ؛ وإبراهيم النخعي . وقال ومجاهد : رخص في قتل الصيد مرة؛ فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه. سعيد بن جبير
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا القول منه - رضي الله عنه - وعظ بالآية؛ وهو - مع ذلك - يرى أن يحكم عليه في العودة؛ ويكفر؛ لكنه خشي - مع ذلك - بقاء النقمة.
[ ص: 262 ] وقال : معنى الآية: ابن زيد عفا الله عما سلف ؛ لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي؛ والتحريم؛ قال: وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل؛ فهذا لا يحكم عليه؛ وهو موكول إلى نقمة الله ؛ ومعنى قوله: "متعمدا" في صدر الآية أي: متعمدا للقتل؛ ناسيا للحرمة.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد تقدم ذكر هذا الفصل.
قال : وقال قوم: هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه؛ وأسند إلى الطبري زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه؛ ثم عاد؛ فأرسل الله عليه نارا فأحرقته؛ فذلك قوله تعالى: ومن عاد فينتقم الله منه .
وقوله تعالى: والله عزيز ذو انتقام ؛ تنبيه على صفتين؛ يقتضي خوف من له بصيرة؛ ومن خاف ازدجر؛ ومن هذا المعنى قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "من خاف أدلج؛ ومن أدلج بلغ المنزل".