قوله - عز وجل -:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
سبب هذه الآية فيما قال ؛ ابن عباس ؛ والبراء بن عازب أنه وأنس بن مالك لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: يا رسول الله؛ كيف بمن مات منا وهو يشربها؛ [ ص: 250 ] ويأكل الميسر؟ ونحو هذا من القول؛ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى؛ ونزلت: وما كان الله ليضيع إيمانكم ؛ ولما كان أمر القبلة خطيرا؛ ومعلما من معالم الدين؛ تخيل قوم نقص من فاته؛ وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم؛ أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات؛ فأعلم تبارك وتعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي؛ وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد؛ بل كانت هذه الأشياء مكروهة؛ لم ينص عليها بتحريم؛ والشرع هو الذي قبحها؛ وحسن تجنبها؛ والجناح: الإثم والحرج؛ وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية؛ والنسبة التي تترتب للعاصي.
و"طعموا"؛ معناه: ذاقوا؛ فصاعدا؛ في رتب الأكل والشرب؛ وقد يستعار للنوم؛ وغيره؛ وحقيقته في حاسة الذوق.
والتكرار في قوله: "اتقوا"؛ يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها؛ وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم؛ وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار؛ فقال قوم: الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر؛ والإيمان على كماله؛ وعمل الصالحات؛ والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة؛ والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة؛ والصدقة؛ وغير ذلك؛ وهو الإحسان.
وقال قوم: الرتبة الأولى لماضي الزمن؛ والثانية للحال؛ والثالثة للاستقبال.
وقال قوم: الاتقاء الأول هو في الشرك؛ والتزام الشرع؛ والثاني في الكبائر؛ والثالث في الصغائر.
[ ص: 251 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها؛ واتقى كل التقوى؛ بل هي لكل مؤمن؛ وإن كان عاصيا أحيانا؛ إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات؛ متق في غالب أمره؛ محسن؛ فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه.
وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي؛ من الصحابة - رضي الله عنه -؛ وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه؛ عثمان وعبد الله؛ ثم هاجر إلى المدينة؛ وشهد بدرا؛ ؛ وكان ختن وعمر ؛ خال عمر بن الخطاب عبد الله ؛ ولاه وحفصة - رضي الله عنه - على عمر بن الخطاب البحرين؛ ثم عزله لأن الجارود؛ سيد عبد القيس؛ قدم على ؛ فشهد عليه بشرب الخمر؛ فقال له عمر بن الخطاب : ومن يشهد معك؟ فقال: عمر ؛ فجاء أبو هريرة ؛ فقال له أبو هريرة - رضي الله عنه -: بم تشهد؟ قال: لم أره يشرب؛ ولكن رأيته سكران يقيء؛ فقال له عمر : لقد تنطعت في الشهادة؛ ثم كتب عمر إلى عمر أن يقدم عليه؛ فقدم؛ فقال قدامة الجارود : أقم على هذا كتاب الله؛ فقال له لعمر - رضي الله عنه -: أخصم أنت أم شهيد؟ قال: بل شهيد؛ قال: قد أديت شهادتك؛ فصمت عمر الجارود؛ ثم غدا على فقال: أقم على عمر كتاب الله؛ فقال له قدامة : ما أراك إلا خصما؛ وما شهد معك إلا رجل واحد؛ قال عمر الجارود: إني أنشدك الله؛ قال : لتمسكن لسانك أو لأسوءنك؛ فقال عمر الجارود: ما هذا والله يا بالحق؛ أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني؛ فقال عمر - رضي الله عنه -: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة أبو هريرة الوليد فسلها؛ وهي امرأة فبعث قدامة؛ إلى عمر هند بنت الوليد ينشدها الله؛ فأقامت الشهادة على زوجها؛ فقال عمر لقدامة: إني حادك؛ فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني؛ قال : لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: عمر ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ؛ الآية؛ فقال له - رضي الله عنه -: أخطأت التأويل؛ إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك؛ ثم حده عمر ؛ وكان مريضا؛ فقال له قوم من الصحابة: لا نرى أن تجلده ما دام مريضا؛ فأصبح يوما وقد عزم على جلده؛ فقال [ ص: 252 ] لأصحابه: ما ترون في جلد عمر قالوا: لا نرى ذلك ما دام وجعا؛ فقال قدامة؟ : لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إلي من أن ألقاه وهو في عنقي؛ وأمر عمر بقدامة فجلد؛ فغاضب قدامة وهجره إلى أن حج عمر ؛ وحج معه عمر مغاضبا له؛ فلما كان قدامة بالسقيا نام؛ ثم استيقظ؛ فقال: عجلوا علي عمر بقدامة؛ فقد أتاني آت في النوم فقال: سالم فإنه أخوك؛ فبعث في قدامة فأبى أن يأتي؛ فقال قدامة : جروه إن أبى؛ فلما جاء كلمه عمر واستغفر له؛ فاصطلحا؛ قال عمر أيوب بن أبي تميمة: لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره.
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ؛ أي: ليختبرنكم؛ ليرى طاعتكم من معصيتكم؛ وصبركم من عجزكم عن الصيد؛ وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة؛ وشائعا عند الجميع منهم؛ مستعملا جدا؛ فابتلاهم الله فيه؛ مع الإحرام؛ أو الحرم؛ كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت.
و"من"؛ تحتمل أن تكون للتبعيض؛ فالمعنى: من صيد البر؛ دون البحر؛ ذهب إليه وغيره؛ ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة؛ إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم؛ فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم؛ ويجوز أن تكون لبيان الجنس؛ قال الطبري : وهذا كما تقول: "لأمتحننك بشيء من الرزق"؛ وكما قال تعالى: الزجاج فاجتنبوا الرجس من الأوثان .
وقوله: "بشيء"؛ يقتضي تبعيضا ما؛ وقد قال كثير من الفقهاء: إن الباء في قوله تعالى: وامسحوا برءوسكم ؛ أعطت تبعيضا ما.
وقرأ ؛ ابن وثاب : "يناله"؛ بالياء منقوطة من تحت؛ وقال والنخعي : الأيدي تنال الفراخ؛ والبيض؛ وما لا يستطيع أن يفر؛ والرماح تنال كبار الصيد. مجاهد
[ ص: 253 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم المتصرف في الاصطياد؛ وهي آلة الآلات؛ وفيها تدخل الجوارح؛ والحبالات؛ وما عمل باليد من فخاخ وشباك؛ وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد؛ وفيها يدخل السهم ونحوه؛ واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ؛ لا للمثير؛ بهذه الآية؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا.
وقوله تعالى: "ليعلم"؛ معناه: ليستمر علمه عليه؛ وهو موجود؛ إذ علم تعالى ذلك في الأزل.
وقرأ : "ليعلم الله"؛ بضم الياء؛ وكسر اللام؛ أي: ليعلم عباده. الزهري
و "بالغيب"؛ قال : معناه: في الدنيا؛ حيث لا يرى العبد ربه؛ فهو غائب عنه؛ والظاهر أن المعنى: بالغيب من الناس؛ أي في الخلوة؛ فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه؛ وقد خفي له لو صاد؛ ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي؛ وهو الذي أراد بقوله: الطبري "ليبلونكم"؛ وأشار إليه قوله: "ذلك"؛ والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة.