قوله - عز وجل -:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين
"واتل"؛ معناه: اسرد؛ وأسمعهم إياه؛ وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم - بها؛ إلا من طريق الوحي؛ فهو من دلائل نبوته - صلى اللـه عليه وسلم -؛ والضمير في "عليهم"؛ ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل؛ لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم؛ وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ والثاني أن علم نبإ ابني آدم إنما هو عندهم؛ وفي غامض كتبهم؛ وعليهم تقوم الحجة في إيراده؛ والنبأ: الخبر؛ وابنا آدم هما - في قول جمهور المفسرين - لصلبه؛ وهما "قابيل" و"هابيل"؛ وقال : ابنا الحسن بن أبي الحسن البصري آدم ليسا لصلبه؛ ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا وهم؛ وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل؛ حتى يقتدي بالغراب؟ والصحيح قول الجمهور؛ وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثا وتطوعا؛ وكان قابيل صاحب زرع؛ فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه؛ فقربه؛ وكان هابيل صاحب غنم؛ فعمد إلى أفضل كباشه فقربه؛ وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم [ ص: 145 ] ويصلي؛ ويسجد؛ فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول؛ وإلا كان تركه دليل عدم القبول؛ فلما قرب هذان كما ذكرت؛ فنزلت النار فأخذت كبش هابيل؛ فرفعته؛ وسترته عن العيون؛ وتركت زرع قابيل؛ قال : فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة؛ حتى أهبط إلى سعيد بن جبير إبراهيم في فداء ابنه؛ قال [سائقو] هذا القصص: فحسد قابيل هابيل؛ وقال له: أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد آدم؛ وروي أن آدم سافر إلى مكة ليرى الكعبة؛ وترك قابيل وصيا على بنيه؛ فجرت هذه القصة في غيبته؛ وروت جماعة من المفسرين - منهم - أن سبب هذا التقريب أن ابن مسعود حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى؛ فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر؛ ولا تحل له أخته توأمته؛ فولدت مع قابيل أخت جميلة؛ ومع هابيل أخت ليست كذلك؛ فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي؛ فأمره آدم؛ فلم يأتمر؛ فاتفقوا على التقريب؛ وروي أن آدم حضر ذلك؛ فتقبل قربان هابيل؛ ووجب أن يأخذ أخت قابيل؛ فحينئذ قال له: "لأقتلنك"؛ وقول هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين ؛ كلام قبله محذوف؛ تقديره: "ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا؛ ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني أتقيه؛ وكنت علي لأحب الخلق؛ وإنما يتقبل الله من المتقين".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك؛ فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة؛ وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول؛ والحتم بالرحمة؛ علم ذلك بإخبار الله تعالى؛ لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا؛ وقال ؛ وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة. عدي بن ثابت
واختلف الناس: لم قال هابيل: ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ؟ فقال : كان الفرض عليهم حينئذ ألا يسل أحد سيفا؛ وألا يمتنع من أريد قتله؛ وقال مجاهد ؛ وجمهور الناس: كان عبد الله بن عمرو هابيل أشد قوة من قابيل؛ ولكنه تحرج.
[ ص: 146 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا هو الأظهر؛ ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر؛ لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه؛ وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا؛ ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة؛ ونحو هذا فعل - رضي الله عنه. عثمان بن عفان
وقوله: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ؛ الآية؛ ليست هذه بإرادة محبة وشهوة؛ وإنما هو تخير في شرين؛ كما تقول العرب: "في الشر خيار"؛ فالمعنى: "إن قتلتني؛ وسبق بذلك قدر؛ فاختياري أن أكون مظلوما سيستنصر الله لي في الآخرة"؛ و"تبوء"؛ معناه: "تمضي متحملا"؛ وقوله: بإثمي وإثمك ؛ قيل: معناه: بإثم قتلي؛ وسائر آثامك التي أوجبت ألا يتقبل منك؛ وقيل: المعنى: بإثم قتلي؛ وإثمك في العداء علي؛ إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم؛ ولو لم ينفذ القتل؛ وقيل: المعنى: "بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك؛ وإثم نفسك في قتالي؛ وقتلي".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: فكأن "إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار"؛ قيل: يا رسول الله؛ هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه"؛ هابيل أراد: "إني لست بحريص على قتلك؛ فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت؛ مع إثمك في قتلي".
وقيل: المعنى: "بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي"؛ أي: "يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي؛ فتبوء بإثمك في قتلي"؛ وهذا تأويل يعضده قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة؛ فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم؛ حتى ينتصف؛ فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه".
[ ص: 147 ] وقوله تعالى: وذلك جزاء الظالمين ؛ يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه؛ ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تبارك وتعالى لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم.