قوله - عز وجل -:
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون
المعنى: "واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم؛ بغير كتبهم؛ ليتحققوا نبوتك؛ وينتظم في ذلك نعم الله عليهم؛ وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة".
وقرأ ابن محيصن: "يا قوم"؛ بالرفع؛ وكذلك حيث وقع من القرآن؛ وروي ذلك عن ؛ و"نعمة الله"؛ هنا اسم الجنس؛ ثم عدد عيون تلك النعم؛ والأنبياء الذين جعل فيهم؛ أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان ابن كثير عيسى - عليه السلام -؛ والأنبياء حاطة؛ ومنقذون من النار؛ وشرف في الدنيا والآخرة؛ وقوله: وجعلكم ملوكا ؛ يحتمل معاني؛ أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل؛ لأن الملوك شرف في الدنيا؛ وحاطة من نوائبها؛ والمعنى الآخر أن يريد: "استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم؛ فصرتم أحرارا تملكون؛ ولا تملكون"؛ فهم ملوك بهذا الوجه؛ وبنحو هذا فسر وغيره؛ وقال السدي : إنما قال: قتادة وجعلكم ملوكا ؛ لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف؛ لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل؛ وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا؛ وإنما اختلفت الأمم في معنى التملك فقط؛ وقال ؛ عبد الله بن عمرو بن العاص وجماعة من أهل [ ص: 137 ] العلم: من كان له مسكن؛ وامرأة؛ وخادم؛ فهو ملك؛ وقيل: من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك. والحسن بن أبي الحسن؛
وقوله تعالى: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ؛ قال فيه ؛ أبو مالك : الخطاب لأمة وسعيد بن جبير محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وهذا ضعيف؛ وقال جمهور المفسرين: الخطاب هو من موسى - عليه السلام - لقومه؛ ثم اختلف المفسرون: ما الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله؟ فقال : المن والسلوى؛ والحجر؛ والغمام؛ وقال غيره: كثرة الأنبياء. مجاهد
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وعلى هذا في كثرة الأنبياء؛ فالعالمون على العموم؛ والإطلاق؛ وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى - عليه السلام -؛ فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه؛ لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد - عليه الصلاة والسلام - أكثر من ذلك؛ قد ظلل رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - بغمامة قبل مبعثه؛ وكلمته الحجارة والبهائم؛ وأقبلت إليه الشجرة؛ وحن الجذع؛ ونبع الماء من بين أصابعه؛ وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته؛ وانشق له القمر؛ وعاد العود سيفا؛ ورجع الحجر المعترض في الخندق رملا مهيلا.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم؛ حتى يتعزز؛ ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة؛ وينفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه؛ و"المقدسة"؛ معناه: المطهرة؛ وقال : المباركة. مجاهد
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والبركة تطهير من القحوط؛ والجوع ونحوه؛ واختلف الناس في تعيينها؛ فقال ابن عباس : هي ومجاهد الطور؛ وما حوله؛ وقال : هي قتادة الشام؛ وقال : هي ابن زيد أريحاء؛ وقاله ؛ السدي أيضا؛ وقال قوم: هي وابن عباس الغوطة؛ وفلسطين؛ وبعض الأردن؛ قال : ولا يختلف أنها بين الطبري الفرات وعريش مصر.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين.
[ ص: 138 ] وقوله تعالى: التي كتب الله لكم ؛ معناه: التي كتب الله في قضائه؛ وقدره أنها لكم ترثونها؛ وتسكنونها؛ مالكين لها؛ ولكن فتنتكم في دخولها بفرض قتال من فيها عليكم؛ تمحيصا وتجربة؛ ثم حذرهم موسى - عليه السلام - الارتداد على الأدبار؛ وذلك الرجوع القهقرى؛ ويحتمل أن يكون تولية الدبر؛ والرجوع في الطريق الذي جيء منه؛ والخاسر: الذي قد نقص حظه.
ثم ذكر - عز وجل - عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا؛ فقالوا: إن فيها قوما جبارين ؛ والجبار: "فعال"؛ من "الجبر"؛ كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته؛ والنخلة الجبارة: العالية التي لا تنال بيد؛ وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة؛ فلما بعث موسى الاثني عشر نقيبا مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم؛ رأوا لهم قوة وبطشا؛ وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم؛ فجاؤوا بني إسرائيل؛ ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال الجبارين؛ حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء؛ ولم يف منهم إلا يوشع بن نون؛ وكالب بن يوقنا؛ ثم إن بني إسرائيل كعوا؛ وجبنوا؛ وقالوا: كوننا عبيدا للقبط أسهل من قتال هؤلاء؛ وهم كثير منهم أن يقدموا رجلا على أنفسهم؛ ويصير بهم إلى أرض مصر؛ مرتدين على الأعقاب؛ ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي؛ وأخبروا موسى - عليه السلام - أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها؛ وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده؛ وحينئذ يدخل بنو إسرائيل.