وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول؛ وقوله تعالى : "فاصطادوا"؛ صيغة أمر؛ ومعناه الإباحة؛ بإجماع من الناس.
واختلف العلماء في صيغة "افعل"؛ إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات؛ فقال الفقهاء: هي على الوجوب؛ حتى يدل الدليل على غير ذلك؛ وقال المتكلمون: هي على الوقف حتى تطلق القرينة؛ ولن يعرى أمر من قرينة؛ وقال قوم: هي على الإباحة؛ حتى يدل الدليل؛ وقال قوم: هي على الندب؛ حتى يدل الدليل؛ وقول الفقهاء أحوطها؛ وقول المتكلمين أقيسها؛ وغير ذلك ضعيف.
ولفظة "افعل"؛ قد تجيء للوجوب؛ كقوله: أقيموا الصلاة ؛ وقد تجيء للندب؛ كقوله: وافعلوا الخير ؛ وقد تجيء للإباحة كقوله: فاصطادوا ؛ و وابتغوا من فضل الله و فانتشروا في الأرض ؛ ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا؛ وقد تجيء للوعيد؛ كقوله: اعملوا ما شئتم ؛ وقد تجيء للتعجيز؛ كقوله: كونوا حجارة .
[ ص: 91 ] وقرأ أبو واقد؛ والجراح؛ ونبيح؛ والحسن بن عمران : "فاصطادوا"؛ بكسر الفاء؛ وهي قراءة مشكلة؛ ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا بدأت؛ فقلت: "اصطادوا"؛ فكسر الفاء مراعاة؛ وتذكرا لكسر ألف الوصل.
وقوله تعالى : "ولا يجرمنكم"؛ معناه: "ولا يكسبنكم"؛ و"جرم الرجل"؛ معناه: "كسب"؛ ويتعدى إلى مفعولين؛ كما يتعدى "كسب"؛ وفي الحديث: "وتكسب المعدوم"؛ قال : و"أجرم"؛ بالألف؛ عرفه: الكسب في الخطايا والذنوب؛ وقال أبو علي : "جرم"؛ و"أجرم"؛ لغتان بمعنى واحد؛ أي: "كسب"؛ وقال قوم: "يجرمنكم"؛ معناه: يحق لكم؛ كما أن الكسائي "لا جرم أن لهم النار"؛ معناه: "حق لهم أن لهم النار"؛ وقال - رضي الله عنهما -: "يجرمنكم"؛ معناه: "يحملنكم". ابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى؛ فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب؛ ومنه قول الشاعر:
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
معناه: "كاسب قوت ناهض"؛ ويقال: "فلان جريمة قومه"؛ إذا كان الكاسب لهم؛ وقرأ ؛ وغيره: "يجرمنكم"؛ بضم الياء؛ والمعنى أيضا: "لا يكسبنكم"؛ وأما قول الشاعر: ابن مسعود
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
[ ص: 92 ] فمعناه: "كسبت فزارة بعدها الغضب"؛ وقد فسر بغير هذا؛ مما هو قريب منه.
وقوله تعالى : "شنآن قوم"؛ قرأ ؛ ابن كثير ؛ وأبو عمرو ؛ وحمزة : "شنآن"؛ متحركة النون؛ وقرأ والكسائي : "شنآن" ساكنة النون؛ واختلف عن ابن عامر عاصم ؛ يقال: "شنأت الرجل شنئا"؛ بفتح الشين؛ و"شنآنا"؛ بفتح النون؛ و"شنآنا"؛ بسكون النون؛ والفتح أكثر؛ كل ذلك إذا أبغضته؛ قال ونافع : كل ما كان من المصادر على "فعلان"؛ بفتح العين؛ لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن؛ وإنما عدي "شنأت"؛ من حيث كان بمعنى "أبغضت"؛ كما عدي "الرفث"؛ بـ "إلى"؛ من حيث كان بمعنى "الإفضاء". سيبويه
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فأما من قرأ: "شنآن"؛ بفتح النون؛ فالأظهر فيه أنه مصدر؛ كأنه قال: "لا يكسبنكم بغض قوم - من أجل أن صدوكم - عدوانا عليهم؛ وظلما لهم"؛ والمصادر على هذا الوزن كثيرة: كـ "النزوان"؛ و"الغليان"؛ و"الطوفان"؛ و"الجريان"؛ وغيره؛ ويحتمل "الشنآن"؛ بفتح النون؛ أن يكون وصفا؛ فيجيء المعنى: "ولا يكسبنكم بغض قوم؛ أو بغضاء قوم؛ عدوانا".
ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم: "حمار قطوان"؛ إذا لم يكن سهل السير؛ وقولهم: "عدو وصمان"؛ أي: ثقيل؛ كعدو الشيخ؛ ونحوه؛ إلى غير هذا؛ مما ليس في الكثرة كالمصادر؛ ومنه ما أنشده أبو زيد :
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي ... وفقأت عين الأشوس الأبيان
بفتح الباء؛ وأما من قرأ: "شنآن"؛ بسكون النون؛ فيحتمل أن يكون مصدرا؛ وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم: "لويته دينه لويانا"؛ وقول : الأحوص
[ ص: 93 ]
.................. ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
إنما هو تخفيف من "شنآن"؛ الذي هو مصدر بسكون النون؛ لأنه حذف الهمزة؛ وألقى حركتها على الساكن؛ هذا هو التخفيف القياسي؛ قال : من زعم أن "فعلان"؛ إذا أسكنت عينه لم يكن مصدرا؛ فقد أخطأ؛ وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفا؛ فقد حكي: "رجل شنآن؛ وامرأة شنآنة"؛ وقياس هذا أنه من فعل غير متعد؛ وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد؛ وفعل واقف؛ فيكون المعنى: "ولا يكسبنكم بغيض قوم؛ أو بغضاء قوم؛ عدوانا"؛ وإذا قدرت اللفظة مصدرا فهو مصدر مضاف إلى المفعول؛ ومما جاء وصفا على "فعلان"؛ ما حكاه أبو علي من قولهم: "خمصان"؛ ومن ذلك قولهم: "ندمان"؛ قال سيبويه القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ومنه "رحمان".
وهذه الآية نزلت عام الفتح؛ حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش؛ وألفافها من القبائل؛ المتظاهرين على صد رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وأصحابه؛ عام الحديبية؛ وذلك سنة ست من الهجرة؛ فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين؛ وحسيكة للكفار؛ فقيل للمؤمنين - عام الفتح؛ وهو سنة ثمان -: "لا يحملنكم ذلك البغض؛ أو أولئك البغضاء؛ من أجل أن صدوكم؛ على أن تعتدوا عليهم؛ إذ لله فيهم إرادة خير؛ وفي علمه أن منهم من يؤمن"؛ كالذي كان.
وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية؛ لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت؛ فقالوا: نصد هؤلاء كما صددنا؛ فنزلت الآية.
وقرأ ؛ أبو عمرو : "إن صدوكم"؛ بكسر الهمزة؛ وقرأ الباقون: "أن صدوكم"؛ بفتح الهمزة؛ إشارة إلى الصد الذي وقع؛ وهذه قراءة الجمهور؛ وهي [ ص: 94 ] أمكن في المعنى؛ وكسر الهمزة معناه: "إن وقع مثل ذلك في المستقبل". وابن كثير
وقرأ : "إن يصدوكم"؛ وهذه تؤيد قراءة ابن مسعود ؛ أبي عمرو . وابن كثير
ثم قال قوم: هما لفظان بمعنى؛ وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا؛ ومبالغة؛ إذ كل بر تقوى؛ وكل تقوى بر. أمر الله تعالى الجميع بالتعاون على البر والتقوى؛
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفي هذا تسامح ما؛ والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب؛ والمندوب إليه؛ والتقوى رعاية الواجب؛ فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز؛ ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم؛ وهو الحكم اللاحق عن الجرائم؛ وعن العدوان؛ وهو ظلم الناس؛ ثم أمر بالتقوى؛ وتوعد توعدا مجملا بشدة العقاب؛ وروي أن هذه الآية نزلت نهيا عن الطلب بذحول الجاهلية؛ إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك؛ قاله ؛ وقد قتل بذلك حليف مجاهد لأبي سفيان من هذيل.