تفسير سورة البروج
وهي مكية بإجماع من المتأولين لا خلاف في ذلك.
قوله عز وجل:
والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد
اختلف الناس في "البروج"، فقال الضحاك : هي القصور، ومنه قول وقتادة : الأخطل
كأنها برج رومي يشيده بان بجص وآجر وأحجار
وقال رضي الله عنهما: البروج: النجوم لأنها تتبرج بنورها، والتبرج: التظاهر والتبدي، وقال الجمهور ابن عباس أيضا: وابن عباس العرب، وهي اثنا عشر على ما قسمته العرب وهي التي تقطعها الشمس في سنة والقمر في ثمانية وعشرين يوما، وقال البروج هي المنازل التي عرفتها : معناه: ذات الرمل والماء يريد أنها مبنية في السماء، وهذا قول ضعيف. قتادة
قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: الموعود به. و"اليوم الموعود" هو يوم القيامة باتفاق،
[ ص: 576 ] وقوله تعالى: و"مشهود" معناه: عليه، أو به، أو فيه، وهذا يترتب بحسب الخلاف في تعيين المراد بـ وشاهد ومشهود ، فقد اختلف الناس في المشار إليه بهما، فقال رضي الله عنهما الشاهد: الله تعالى, والمشهود يوم القيامة, وقال ابن عباس أيضا، ابن عباس والحسن بن علي، : الشاهد: وعكرمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة, قال الله تعالى: إنا أرسلناك شاهدا ، وقال تعالى في يوم القيامة: وذلك يوم مشهود . وقال مجاهد أيضا: الشاهد: وعكرمة آدم عليه السلام وجميع ذريته، والمشهود: يوم القيامة. و"شاهد" اسم جنس على هذا، وقال بعض من بسط قول مجاهد "شاهد" يراد به رجل فرد أو نسمة من النسم، ففي هذا تذكير بحقارة المسكين ابن وعكرمة آدم، و"المشهود" يوم القيامة، وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا: الشاهد: يوم عرفة ويوم عرفة ويوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، وقال وابن عباس علي، ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، والحسن وابن المسيب : "شاهد" يوم القيامه، و"مشهود" الناس وقال وقتادة : الشاهد: أنت يا بن محمد بن كعب آدم، والمشهود: الله تعالى، وقال بالعكس، وتلا: ( وكفى بالله شهيدا ) ، وقال ابن جبير : الشاهد: أبو مالك عيسى عليه السلام، والمشهود: أمته، قال الله تعالى: وكنت عليهم شهيدا ، وقال : "شاهد": يوم التروية، و"مشهود": يوم عرفة، وقال بعض الناس في كتاب ابن المسيب : الشاهد يوم الاثنين، والمشهود يوم الجمعة، وذكره النقاش . وقال الثعلبي رضي الله عنه: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم النحر، وعنه أيضا: "شاهد": يوم القيامة، و"مشهود": يوم عرفة، [ ص: 577 ] وقال علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة قاله "شاهد": يوم الجمعة، و"مشهود" يوم عرفة، علي وأبو بكر . وقال والحسن : الشاهد: يوم الأضحى، والمشهود: يوم عرفة. إبراهيم النخعي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ووصف هذه الأيام بشاهد لأنها تشهد لحاضريها بالأعمال، والمشهود فيما مضى من الأقوال بمعنى المشاهد -بفتح الهاء-، وقال : الشاهد: الملائكة الحفظة، والمشهود عليهم: الناس، وقال الترمذي عبد العزيز بن يحيى -عند -: الشاهد الثعلبي محمد عليه الصلاة والسلام، والمشهود عليهم أمته، نحو قوله تعالى: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، أي شاهدا، وقيل: وقال الشاهد الأنبياء عليهم السلام، والمشهود عليهم أممهم، الحسن بن الفضل: الشاهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود عليهم قوم نوح عليه السلام وسائر الأمم حسب الحديث المنصوص في ذلك. وقال أيضا: الشاهد، الجوارح التي تنطق يوم القيامة فتشهد على أصحابها، والمشهود عليهم أصحابها، وقال بعض العلماء: الشاهد الملائكة المتعاقبون في الأمة، والمشهود قرآن الفجر، وتفسيره ابن جبير إن قرآن الفجر كان مشهودا . وقال بعض العلماء: الشاهد النجم، والمشهود عليه الليل والنهار، أي: يشهد النجم بإقبال هذا وإدبار هذا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشاهد النجم" وقال بعض العلماء: الشاهد هو الله تعالى والملائكة وأولو العلم، والمشهود به الوحدانية وأن الدين عند الله الإسلام، وقيل: الشاهد: مخلوقات الله تعالى، والمشهود به وحدانيته، وأنشد "حتى يطلع الشاهد"، في هذا المعنى قول الشاعر : الثعلبي
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
[ ص: 578 ] و"قتل" معناه: فعل الله بهم ذلك لأنهم أهل له، فهو على جهة الدعاء بحسب البشر، لا أن الله تعالى يدعو على أحد، وقيل -عن -: معناه: لعن، وهذا تفسير بالمعنى، وقيل: هو إخبار بأن النار قتلتهم، قاله ابن عباس ، وسيأتي بيانه. الربيع بن أنس
واختلف الناس في فقيل: هو قوم كانوا على دين، وكان لهم ملك، فزنى بأخته، ثم حمله بعض الناس على أن يسن في الناس نكاح الأخوات والبنات، فحمل الناس على ذلك، فأطاعه كثير وعصته فرقة، فخذ لهم أخاديد، وهي حفائر طويلة كالخنادق، وأضرم لهم نارا وطرحهم فيها، ثم استمرت المجوسية في مطيعيه، وقال أصحاب الأخدود، رضي الله عنه: صاحب الأخدود ملك من علي بن أبي طالب حمير، كان بمزارع من اليمن، اقتتل هو والكفار مع المؤمنين، ثم غلب في آخر الأمر، فحرقهم على دينه إذ أبوا دينه، ومنهم كانت المرأة ذات الطفل التي تلكأت فقال لها الطفل: امض في النار فإنك على الحق. وحكى عن النقاش ، أن نبي أصحاب الأخدود كان حبشيا، وأن الحبشة بقية أصحاب الأخدود، وقيل: أصحاب الأخدود ذو نواس في قصة علي رضي الله عنه عبد الله بن الثامر التي وقعت في السير، وقيل: كان أصحاب الأخدود في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ورأيت في بعض الكتب أن صاحب الأخدود هو محرق، وأنه الذي حرق من بني تميم المائة، ويعترض هذا القول بقوله تعالى: وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، فينفصل عن هذا الاعتراض بأن هذا الكلام منقطع من قصة أصحاب الأخدود، وأن المراد بقوله تعالى: "هم"قريش الذين كانوا يفتنون الناس المؤمنين والمؤمنات.
واختلف الناس في جواب القسم، فقال بعض النحاة: هو محذوف لعلم السامع به، وقال آخرون: هو قوله تعالى: "قتل"، والتقدير: لقتل، وقال : هو في قوله تعالى: قتادة إن بطش ربك لشديد ، وقال آخرون: هو في قوله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين .
وقوله تعالى: "النار" بدل من "الأخدود"، وهو بدل اشتمال، وهي قراءة [ ص: 579 ] الجمهور "النار" بخفض الراء، وقرأ قوم "النار" بالرفع، على معنى: قتلتهم النار. و"الوقود" بالضم- مصدر من: وقدت النار إذا اضطرمت، و"الوقود" -بفتح الواو- ما توقد به، وقرأ الجمهور بفتح الواو، وقرأ الحسن، ، وأبو رجاء وأبو حيوة: بضمها. وكان من قصة هؤلاء أن الكفار قعدوا، وضم المؤمنون فعرض عليهم الدخول في الكفر، فمن أبى رمي في أخدود النار فاحترق، فروي أنه احترق عشرون ألفا، قال ، الربيع بن أنس ، وابن إسحاق : بعث الله تعالى على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم، أو نحو هذا، وخرجت النار وأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود، وعلى هذا يجيء "قتل" خبرا الادعاء، وقال وأبو العالية : قتادة إذ هم عليها قعود يعني المؤمنين.
و"نقموا" معناه: اعتدوا وقرأ جمهور الناس: "نقموا" بفتح القاف، وقرأ أبو حيوة، : "نقموا" بكسر القاء. وابن أبي عبلة