تفسير سورة الانشقاق
وهي مكية بلا خلاف بين المتأولين.
قوله عز وجل:
إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور بلى إن ربه كان به بصيرا
هذه أوصاف يوم القيامة، كما قال تعالى: و"انشقاق السماء" هو تفطرها لهول يوم القيامة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ، وقال ، الفراء ، وغيرهما: هو تشققها بالغمام، وقال قوم: تشققها هو تفتحها أبوابا لنزول الملائكة وصعودهم في هول يوم القيامة. وقرأ والزجاج : "انشقت" يقف على التاء كأنه يشمها شيئا من الجر، وكذلك في أخواتها. قال أبو عمرو : وسمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس بكسر هذه التاءات، وهي لغة. أبو حاتم
و"أذنت" معناه: استمتعت وسمعت أمره ونهيه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ومنه قول الشاعر: [ ص: 568 ] "ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يتغنى بالقرآن"،
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإذا ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقوله تعالى: و"حقت"، قال ، ابن عباس ، معناه: وحق لها أن تسمع وتطيع، ويحتمل أن يريد: وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى. وابن جبير
و"مد الأرض" هو إزالة جبالها حتى لا يبقى فيها عوج ولا أمت، فذلك مدها، وفي الحديث: "إن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم العكاظي" .
و"ألقت ما فيها"، يريد: من الموتى، قاله الجمهور، وقال : من الكنوز، وهذا ضعيف لأن ذلك يكون وقت خروج الزجاج الدجال، وإنما تلقي يوم القيامة الموتى.
و"تخلت" معناه: خلت عما كان فيها، أي لم تتمسك منهم بشيء.
وقوله تعالى: يا أيها الإنسان مخاطبة للجنس، و"الكادح": العامل بشدة وسرعة واجتهاد مؤثر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: والمعنى: أنك عامل خيرا أو شرا، وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك لأن الزمن يطير بعمر الإنسان، وإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه. وهذه آية وعظ وتذكير، أي: فكن على حذر من هذه الحال، واعمل عملا صالحا تجده، وقرأ "من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته حدوثا أو كدوحا في وجهه يوم القيامة"، : بإدغام كاف "إنك" في كاف "كادح"، ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [ ص: 569 ] طلحة
وما الإنسان إلا ذو اغترار طوال الدهر يكدح في سفال
وقال : من استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، وقوله تعالى: "فملاقيه" معناه: فملاق عذابه أو تنعيمه. قتادة
واختلف النحاة في العامل في "إذا" فقال بعض النحاة: العامل: "انشقت"، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن "إذا" مضافة إلى "انشقت"، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء.
وقال آخرون منهم: العامل "فملاقيه"، وقال بعض حذاقهم: العامل فعل مضمر. وكذلك اختلفوا في جواب إذا"، فقال كثير من النحاة: هو محذوف لعلم السامع به، وقال ، أبو العباس المبرد : هو في قوله تعالى: والأخفش يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ، أي: إذا انشقت السماء فأنت ملاقي الله تعالى، وقيل: التقدير: فيا أيها الإنسان، وجواب "إذا" في الفاء المقدرة. وقال عن بعض النحاة: هو "أذنت" على زيادة تقدير الواو. فأما الضمير "فملاقيه" فقال جمهور المتأولين: هو عائد على الرب تعالى، فالفاء -على هذا- عاطفة "ملاق" على "كادح"، وقال بعض الناس: هو عائد على الكدح، فالفاء -على هذا- هى عاطفة جملة على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه، والمعنى: ملاق جزاءه خيرا كان أو شرا. الفراء
ثم قسم تعالى الناس إلى المؤمن والكافر، ومن ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار، وقد جوز قوم أن يعطاه أولا قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد على هذا القول. و"الحساب اليسير" هو العرض، وأما من نوقش الحساب فإنه يهلك ويعذب، كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمؤمنون يعطون كتبهم بأيمانهم، [ ص: 570 ] رضي الله عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعائشة رضي الله عنها: ألم يقل الله تعالى: عائشة فسوف يحاسب حسابا يسيرا الآية؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وسلم: "إنما ذلك العرض، وأما من نوقش الحساب فإنه يهلك "، وفي الحديث من طريق "من حوسب عذب" فقالت رضي الله عنه، ابن عمر " يدني الله تعالى العبد حتى يضع عليه كنفه، فيقول: ألم أفعل بك كذا وكذا؟ -يعدد عليه نعمه-، ثم يقول له: فلم فعلت كذا وكذا لمعاصيه- فيقف العبد خزيانا، فيقول الله تعالى: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. وقالت رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: عائشة ، وروى "اللهم حاسبني حسابا يسيرا"، فقلت يا رسول الله وما هو؟ فقال: "أن يتجاوز عن السيئات" ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر "من حاسب نفسه في الدنيا هون الله تعالى حسابه يوم القيامة". وقوله تعالى: "إلى أهله" أي الذين أعد الله تعالى له في الجنة، إما من نساء الدنيا وإما من الحور العين وإما من الجميع.
[ ص: 571 ] وروي أن يده تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها. والكافر يؤتى كتابه من ورائه لأن يديه مغلولتان،
ويقال إن هاتين الآيتين نزلتا في وفي أخيه أبي سلمة بن عبد الأسد الأسود ، وكان أبو سلمة من أفضل المسلمين وأخوه من عتاة الكافرين و"يدعوا ثبورا" معناه: يصيح منتحبا: وا ثبوراه وا حزناه ونحو هذا مما معناه: هذا وقتك، وأوانك، أي احضرني، الثبور اسم جامع للمكاره كالويل.
وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وعمر بن عبد العزيز والجحدري، وأبو الشعثاء، : "ويصلى" بشد اللام وضم الياء على المبالغة. وقرأ والأعرج أيضا، نافع -في رواية وعاصم بضم الياء وتخفيف اللام، وهي قراءة أبان- أبي الأشهب ، ، وعيسى وهارون عن . وقرأ أبي عمرو ، عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو جعفر وقتادة ، وعيسى ، وطلحة بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، وفي مصحف والأعمش : "وسيصلى". وقوله تعالى: "في أهله" يريد في الدنيا، أي تملكه ذلك لا يدري إلا السرور بأهله دون معرفة الله تعالى، والمؤمن إن سر بأهله لا حرج عليه. ابن مسعود
وقوله تعالى: إنه ظن أن لن يحور معناه: لن يرجع إلى الله تعالى مبعوثا محشورا، قال رضي الله عنهما: لم أعلم ما معنى "يحور" حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي ارجعي. والظن هنا على بابه، و"أن" وما بعدها تسد مسد مفعولي "ظن"، وهي "أن" المخففة من الثقيلة، و"الحور": الرجوع على الأدراج، ومنه: "اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور". [ ص: 572 ] ثم رد الله تعالى على ظن هذا الكافر بقوله سبحانه: "بلى"، أي: يحور ويرجع، ثم أعلمهم أن الله تعالى لم يزل بصيرا بهم، لا تخفى عليه أفعال أحد منهم، وفي هذا وعيد. ابن عباس