أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم، وقوله تعالى: أم حسب توقيف، وهي "أم" المنقطعة، وتقدم تفسير مرض القلب، وقوله تعالى: أن لن يخرج الله [ ص: 656 ] أضغانهم أي يبديها من مكانها في نفوسهم، و"الضغن": الحقد.
وقوله تعالى: ولو نشاء لأريناكهم مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قراباتهم وإن كانوا قد عرفوا بلحن القول، وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبي، والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة، و"السيما": العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم، وقال ، ابن عباس : إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة في قوله تعالى: والضحاك ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ، وفي قوله تعالى: فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحدا، وأعظم ما روي في اشتهارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوما فأخرجت منهم جماعة من المسجد، كأنه وسمهم بهذا، لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم.
وروي عن ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بهم أو ببعضهم، وله في ذلك كلام مع حذيفة رضي الله عنهما. عمر
[ ص: 657 ] ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم في لحن القول، ومعناه: في مذهب القول ومنحاه ومقصده، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول، وهذا معنى قوله تعالى: في لحن القول ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث، أي أذهب بها في جهات الكلام، وقد يكون هذا اللحن متفقا عليه، أن يقول الإنسان قولا يفهم السامعون منه معنى، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر، ومنه الحديث الذي "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عضل والقارة، سعد بن معاذ وفي هذا المعنى قول الشاعر : قال
وخير الحديث ما كان لحنا
[ ص: 658 ] أي: ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيرك، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن أقوالهم المحرقة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها، واحتج بهذه الآية من جعل في وقوله تعالى: التعريض بالقذف، والله يعلم أعمالكم مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقرأ الجمهور: "ولنبلونكم" بالنون، وكذلك "يعلم" وكذلك "يبلوا"، وروى رويس عن "ونبلو" بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم، وكان يعقوب: إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم، لا تبتلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. وقوله تعالى: الفضيل بن عياض حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين معناه: حتى نعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود، وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم، وعلم الله تبارك وتعالى بالمجاهدين قديم أزلي، وإنما المعنى ما ذكرناه.
وقوله تعالى: وصدوا يحتمل أن يكون المعنى: وصدوا غيرهم، ويحتمل أن يكون غير متعد بمعنى؟ وصدوهم في أنفسهم، وقوله تعالى: وشاقوا الرسول معناه: خالفوه فكانوا في شق وهو صلى الله عليه وسلم في شق، وقوله تعالى: من بعد ما تبين لهم الهدى قالت فرقة: نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر [ ص: 659 ] محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وقالت فرقة: نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها، وقال رضي الله عنهما: نزلت في المطعمين سفرة بدر، و "تبين الهدى" هو وجوده عند الداعي إليه، وقالت فرقة: بل هي عامة في كل كافر، وألزمهم أنه قد تبين لهم الهدى من حيث كان الهدى بينا في نفسه، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له: أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك، بمعنى أنه هو هكذا في نفسه. وقوله تعالى: ابن عباس لن يضروا الله شيئا تحقير لهم، وقوله سبحانه: وسيحبط أعمالهم أما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب، فيجيء هذا الإحباط فيها متمكنا، وأما على قول من لا يرى ذلك فمعنى "سيحبط" أنها عبارة عن إعدام أعمالهم وإفسادها وأنها لا توجد شيئا منتفعا به، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة.