فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين
قرأ جمهور الناس: "أسلما" أي: أنفسهما، واستسلما لله. وقرأ علي، وعبد الله، ، وابن عباس ، ومجاهد : "سلما"، والمعنى: فوضا إليه في قضائه وقدره، وانحملا على أمره، فأسلم والثوري إبراهيم ابنه، وأسلم الابن نفسه.
واختلف النحاة في جواب (لما)، فقال الكوفيون: الجواب "ناديناه"، والواو زائدة. وقالت فرقة: الجواب: "تله" والواو زائدة. كزيادتها في: وفتحت السماء ، وقال البصريون: الجواب محذوف، تقديره: فلما أسلما سلما وتله، وهذا قول سيبويه ، وهو عندهم كقول والخليل امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
[ ص: 303 ] والتقدير: فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى. وقال بعض البصريين: الجواب محذوف، وتقديره: فلما أسلما وتله للجبين أجزل أجرهما، أو نحو هذا مما يقتضيه المعنى. وقوله تعالى: "وتله" معناه: وضعه بقوة، ومنه الحديث: أي: وضعه بقوة، والتل من الأرض مأخوذ من هذا، كأنه تل في ذلك الموضع، و"للجبين" معناه: لتلك الجهة وعليها، كما يقولون في المثل: لليدين والفم، وكما تقول: سقط لشقه الأيسر، وقال " فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده"، ساعدة بن جؤية:
فظل تليلا للجبينين
وهما ما اكتنف الجبهة من هنا وهنا.
وروي في قصص هذه الآية أن الذبيح قال لأبيه: اشدد رباطي بالحبل لئلا أضطرب، واصرف بصرك عني، لئلا ترحمني، ورد وجهي نحو الأرض، قال : كبه لفيه وأخذ الشفرة، والتل للجبين ليس يقتضي أن الوجه نحو الأرض، بل هي هيئة من ذبح للقبلة على جنبه. وقوله: قتادة أن يا إبراهيم مفسرة لا موضع لها من الإعراب.
وقوله تعالى: قد صدقت الرؤيا يحتمل أن يريد: بقلبك، على معنى: كانت [ ص: 304 ] عندك رؤياك صادقة وحقا من الله، فعملت بحسبها حين آمنت بها واعتقدت صدقها، ويحتمل أن يريد: صدقت بعملك ما حصل عن الرؤيا في نفسك، كأنه قال: قد وفيتها حقها من العمل. والرؤيا اسم لما يرى من قبل الله في المنام، والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان، ومنه الحديث الصحيح "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان".
وقوله تعالى: إنا كذلك إشارة إلى ما عمل إبراهيم، كأنه يقول: إنا بهذا النوع من الإخلاص والطاعة نجزي المحسنين، وقوله: إن هذا يحتمل أن يشير إلى ما في القصة من امتحان واختبار بالشدة، ويحتمل أن يشير إلى ما في القصة من سرور بالفدية وإنقاذ من تلك الشدة في إنفاذ الذبح، فيكون البلاء بمعنى النعمة، وإلى كل احتمال قد أشارت فرقة من المفسرين، وفي الحديث أن الله تعالى أوحى إلى إسحق أني قد أعطيتك بصبرك لأمري دعوة أعطيك فيها ما سألت، فسلني، فقال: يا رب أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة.
والضمير في "فديناه" عائد على الذبح، و"الذبح" اسم لما يذبح، ووصفه بالعظم لأنه متقبل يقينا، قاله ، وقال مجاهد عمر بن عبيد: الذبح الكبش، والعظيم لجري السنة به وكونه دينا باقيا آخر الدهر، وقال الحسن بن الفضل: عظم لأنه من عند الله كان، وقال : لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين، وروي عن أبو بكر الوراق ، وعن ابن عباس أن كونه عظيما هو أنه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفا، وقال سعيد بن جبير : هو الكبش الذي قرب ولد ابن عباس آدم، وقال ، ابن عباس : كان وعلا أهبط عليه من ثبير، وقال الجمهور: إنه كبش أبيض أقرن أعين، وجده وراءه مربوطا [ ص: 305 ] بسمرة، وروي أنه انفلت فاتبعه ورماه بحصيات في مواضع الجمرات، فبذلك مضت السنة، وقال والحسن رضي الله عنهما: رجم الشيطان عند جمرة العقبة وغيرها، وقد تقدم هذا، ابن عباس وأهل السنة على أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل، والمعتزلة تقول: إنه لا يصح نسخ إلا بعد وقوع الفعل، افترقت في هذه الآية على فرقتين: فقالت فرقة: وقع الذبح والتأم بعد ذلك، وهذا كذب صراح، وقالت فرقة منهم: بل كان إبراهيم لم ير في منامه إلا إمرار الشفرة فقط، فظن أنه ذبح فجهز، فنفذ لذلك، فلما وقع الذي رآه وقع النسخ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإذا لا اختلاف أن إبراهيم أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع.
وروي أن صفيحة نحاس اعترضته بحرفها، والله أعلم كيف كان، فقد كثر الناس في قصص هذه الآية بما صحته معدومة فاختصرته. وقد تقدم تفسير مثل قوله: وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم . وقوله تعالى: كذلك نجزي المحسنين معناه: بمثل هذا الفعل، وباقي الآية بين.
ومما يستغرب في هذه الآية أن قال: ذبح في المقام، وذكر عبيد بن عمير عن جماعة لم يسمها أنها قالت: كان الأمر وإراعة الذبح والقصة كلها الطبري بالشام، وقال الجمهور: ذبح بمنى، وقال : رأيت قرني كبش الشعبي إبراهيم معلقة في الكعبة.