والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما
اختلف المفسرون في هذه الآية التي في الإنفاق، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة وإن أفرط، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه، وهذا قول ، ابن عباس ، ومجاهد . وقال وابن زيد عون بن عبد الله بن عتبة : الإسراف: أن تنفق مال غيرك. وغير هذا من الأقوال التي [ ص: 458 ] هي غير مرتبطة بلفظ الآية. وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال: إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في والحسن في ذلك هو القوام، أي: العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه من الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه يتصدق بجميع ماله أبا بكر ; لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال : هو الذي لا يجيع ولا يعري، ولا ينفق نفقة يقول الناس: قد أسرف. وقال إبراهيم النخعي : هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال، ولا يأكلون طعاما للذة. وقال يزيد بن أبي حبيب عبد الملك بن مروان رضي الله عنه حين زوجه ابنته لعمر بن عبد العزيز : ما نفقتك؟ فقال له فاطمة : الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر يزيد بن حبيب أيضا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويكنهم من الحر والبرد. وقال رضي الله عنه: عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه وأكله ، وفي سنن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن ماجه ، وقال الشاعر: إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقرأ ، نافع ، وابن عامر وأبو بكر ، ، ومجاهد وحفص عن : "يقتروا" بفتح [ ص: 459 ] الياء وكسر التاء. وقرأ عاصم ، حمزة بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة والكسائي ، الحسن -، والأعمش بخلاف-. وقرأ وعاصم بضم الياء وفتح التاء. أبو عبد الرحمن
وقرأ والناس: "قواما" بفتح القاف، أي: معتدلا، وقرأ أبو عمرو حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف، أي: مبلغا وسدادا وملاك حال. و "قواما" خبر "كان"، واسمها مقدر، أي: الإنفاق، وجوز أن يكون اسمها قوله: "بين ذلك". الفراء
وقوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية، إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في: عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات، وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات، وبالزنى الذي كان عندهم مباحا، وفي نحو هذه الآية قال رضي الله عنه: عبد الله بن مسعود . قلت يوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وبالقتل والزنى يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين، ولهم من الوعيد بقدر ذلك، والحق الذي تقتل به النفس هو قتل النفس، والكفر بعد الإيمان، والزنى بعد الإحصان، والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين.
و "الأثام" في كلام العرب : العقاب، وبه فسر هذه الآية، ومنه قول الشاعر: ابن زيد
[ ص: 460 ]
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام
أي: جزاء وعقوبة. وقال ، عكرمة ، وعبد الله بن عمرو : إن "أثاما" واد في جهنم، هذا اسمه، وقد جعله الله تعالى عقابا للكفرة. ومجاهد
وقرأ ، نافع ، وابن عامر ، وحمزة : "يضاعف" و "يخلد" جزما. وقرأ والكسائي ، ابن كثير ، وأبو جعفر ، والحسن : "يضعف" بشد العين وطرح الألف، وبالجزم في "يضعف"، "ويخلد". وقرأ وابن عامر طلحة بن سليمان : "نضعف" بضم النون وكسر العين المشددة "العذاب" بالنصب، "ويخلد" بالجزم، وهي قراءة . وقرأ أبي جعفر طلحة بن سليمان : "وتخلد" بالتاء، على معنى مخاطبة الكافر بذلك، وروي عن : "ويخلد" بضم الياء من تحت، وفتح اللام، قال أبي عمرو : وهي غلط من جهة الرواية، و "يضاعف" بالجزم بدل من "يلق"، قال أبو علي : مضاعفة العذاب لقي الأثام، قال الشاعر: سيبويه
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وقوله تعالى: إلا من تاب الآية، لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني، واختلفوا في القاتل من المسلمين، فقال جمهور العلماء: له التوبة، [ ص: 461 ] وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فحصل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من ذنوب، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلود الدول ونحوه، وروى لمن قتل: حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبو هريرة وحشي قاتل رضي الله عنه، وقاله حمزة . وقال سعيد بن جبير -رضي الله عنهما- وغيره: لا توبة للقاتل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون، وذلك أنها ابن عباس إلا من تاب الآية، ونزلت قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء فرحه بها وبسورة الفتح . وقال غير لما نزلت قالت طوائف من المشركين: كيف لنا بالدخول في الإسلام ونحن قد فعلنا جميع هذا؟ فنزلت رضي الله عنهما ممن قال بأن ابن عباس إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء، قاله لا توبة للقاتل: ، ورواه أيضا زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير رضي الله عنهما، وقال ابن عباس : صحبت أبو الجوزاء رضي الله عنهما ثلاث عشرة سنة فما رأيت شيئا من القرآن إلا سألته عنه، فما سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى يقول لذنب: لا أغفره. ابن عباس
[ ص: 462 ] وقوله تعالى: يبدل الله سيئاتهم حسنات . معناه: يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة، فيكون ذلك سببا لرحمة الله عز وجل إياهم، قاله ، ابن عباس ، وابن جبير ، وابن زيد ، وردوا على من قال: هو في يوم القيامة لمن يريد المغفرة له من الموحدين، يبدل السيئات حسنات، وهذا تأويل والحسن في هذه الآية. ابن المسيب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهو معنى كرم العفو.
وقرأ : "يبدل" بسكون الباء وتخفيف الدال. ابن أبي عبلة