الذي جعل لكم الأرض فراشا صفة ثانية، أو مدح منصوب، أو مرفوع، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا و جعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه: بمعنى صار وطفق فلا يتعدى كقوله:
فقد جعلت قلوص بني سهيل... من الأكوار مرتعها قريب
وبمعنى أوجد فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى: وجعل الظلمات والنور وبمعنى صير، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى: جعل لكم الأرض فراشا والتصيير يكون بالفعل تارة، وبالقول أو العقد أخرى.
ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا ظاهرا عن الماء، مع ما في طبعه من الإحاطة بها، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة، لأن كرية شكلها مع عظم حجمها. واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها.
والسماء بناء قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم، وقيل: جمع سماءة. والبناء مصدر، سمي به المبنى بيتا كان أو قبة أو خباء، ومنه بنى على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا.
وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم عطف على جعل ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة، ومن الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر. أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحابا ماطرا. و من الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى: فأخرجنا به ثمرات واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقا كأنه قال: وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات، ولا جعل كل المرزوق ثمارا. أو للتبيين، و رزقا مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفا. وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه، ويؤيده قراءة من قرأ: « من الثمرة » على التوحيد.
أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: كم تركوا من جنات وعيون وقوله: [ ص: 56 ] ثلاثة قروء . أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة. و لكم صفة رزقا إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال: رزقا إياكم.
فلا تجعلوا لله أندادا متعلق بـ اعبدوا على أنه نهي معطوف عليه. أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له. أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فأطلع في قوله تعالى: لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة، والمعنى: إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا، أو بالذي جعل، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه: لا تجعلوا، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى: أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به. والند: المثل المناوئ، قال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا... وما تيم لذي حسب نديد
من ند يند ندودا: إذا نفر، وناددت الرجل خالفته، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند. ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا واحدا أم ألف رب... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا... كذلك يفعل الرجل البصير
وأنتم تعلمون حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح، أي: وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجوب الذات، متعال عن مشابهة المخلوقات. أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب، لا تقييد الحكم وقصره عليه، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف.
واعلم أن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، والنهي عن الإشراك به تعالى، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى. وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس، فإن الثمرة أعم من المطعوم، والرزق أعم من المأكول والمشروب. ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى، رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل، فمثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار، فإن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حد مطلعا.