وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكيا وبحالها في الأمانة معجبا ومفتخرا، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: آدم ولا فخر"، وليبين أن ما فيه من [ ص: 297 ] الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: "أنا سيد ولد وما أبرئ نفسي : من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها، ولا يخلو، إما أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهم الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية، لا عن طريق القصد والعزم، وإما أن يريد به عموم الأحوال، إن النفس لأمارة بالسوء : أراد الجنس، [ ص: 298 ] أي: إن هذا الجنس يأمر بالسوء، ويحمل عليه بما فيه من الشهوات، إلا ما رحم ربي : إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة، ويجوز أن يكون "ما رحم": في معنى: الزمن، أي: إلا وقت رحمة ربي، يعني: أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، كقوله: ولا هم ينقذون إلا رحمة [يس: 43]، وقيل: معناه: ذلك ليعلم أني لم أخنه; لأن المعصية خيانة، وقيل: هو من كلام امرأة العزيز، أي: ذلك الذي قلت: ليعلم يوسف أني لم أخنه، ولم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته، وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوآ إلا أن يسجن وأودعته السجن -تريد الاعتذار مما كان منها- إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي: إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف، إن ربي غفور رحيم : استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت.
فإن قلت: كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك ؟
قلت: كفي بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلامه; ونحوه قوله: قال الملأ من قوم فرعون كلام فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم [الأعراف: 109] بسحره، ثم قال: فماذا تأمرون : وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم، وعن : هذا من تقديم القرآن وتأخيره، ذهب إلى أن: "ذلك ليعلم": متصل بقوله: ابن جريج فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن [يوسف: 50]، ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة، فزعموا أن يوسف حين قال: أني لم أخنه بالغيب : قال له جبريل: ولا حين [ ص: 299 ] هممت بها، وقالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.