[ ص: 5 ] سورة التوبة
مدنية [إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان]
وآياتها 130، وقيل: 129 [نزلت بعد المائدة]
لها عدة أسماء: براءة ،التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، ، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، الفاضحة لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أي: تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها، وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم . وعن سورة العذاب، حذيفة -رضي الله عنه-: إنكم تسمونها سورة التوبة; وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه .
فإن قلت: هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور ؟
قلت: سأل عن ذلك عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فقال: عثمان إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية، قال: "اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا"، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها; فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين، وعن : إنما [ ص: 6 ] توهموا ذلك; لأن في الأنفال: ذكر العهود، وفي براءة: نبذ العهود، وسئل أبي بن كعب -رضي الله عنه- فقال: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال تعالى: ابن عيينة ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا [النساء: 94 ]، قيل: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كتب إلى أهل الحرب: بسم الله الرحمن الرحيم . قال: إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم; ألا تراه يقول: "سلام على من اتبع الهدى" فمن دعي إلى الله -عز وجل- فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب، فقد اتبع الهدى، وأما النبذ، فإنما هو البراءة واللعنة، وأهل الحرب لا يسلم عليهم، ولا يقال: لا تفرق ولا تخف، ومترس، ولا بأس: هذا أمان كله. وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، تعدان السابعة من الطول، وهي سبع وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر; لأنهما معا مائتان وست، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة . وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت: بسم الله الرحمن الرحيم; لقول من قال: هما سورة واحدة .
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين
[ ص: 7 ] "براءة": خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه براءة، و"من": لابتداء الغاية، متعلق بمحذوف، وليس بصلة، كما في قولك: برئت من الدين . والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله، إلى الذين عاهدتم : كما يقال: كتاب من فلان إلى فلان . ويجوز أن يكون "براءة": مبتدأ; لتخصيصها بصفتها، والخبر: إلى الذين عاهدتم ; كما تقول: رجل من بني تميم في الدار، وقرئ: "براءة " بالنصب، على: اسمعوا براءة، وقرأ أهل نجران: "من الله ": بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف; لكثرته . والمعنى: أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم . فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟
قلت: قد أذن الله في أولا، فاتفق المسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد، أوجب الله -تعالى- النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما نجدد من ذلك، فقيل لهم: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين، وروي أنهم عاهدوا المشركين من أهل معاهدة المشركين مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا لا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم [التوبة: 5] ، وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها ، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، -رضي الله عنه- على موسم سنة تسع، ثم أتبعه أبا بكر -رضي الله عنه- راكب العضباء، ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى عليا -رضي الله عنه- ؟ فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا أبي بكر سمع علي الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما لحقه قال: أمير أو مأمور ؟ قال: مأمور أبو بكر . وروي: فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لما كان ببعض الطريق هبط أبا بكر جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد، لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك، فأرسل ، فرجع عليا -رضي الله عنهما- إلى رسول الله [ ص: 8 ] -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أشيء نزل من السماء؟ قال: نعم، فسر وأنت على الموسم، أبو بكر ينادي بالآي . فلما كان قبل التروية، خطب وعلي -رضي الله عنه- وحدثهم عن مناسكهم، وقام أبو بكر -رضي الله عنه - يوم النحر عند علي جمرة العقبة، فقال: يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم . فقالوا: بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية . وعن -رضي الله عنه- ثلاثة عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب مجاهد البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك: يا أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف علي، . وقيل: إنما أمر ألا يبلغ عنه إلا رجل منه، لأن العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه -رضي الله عنه- لجاز أن يقولوا: هذا [ ص: 9 ] خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فأزيحت علتهم بتولية ذلك أبو بكر -رضي الله عنه-. عليا
فإن قلت: الأشهر الأربعة ما هي ؟
قلت: عن -رضي الله عنه- أن براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر، وكانت حرما; لأنهم أومنوا فيها، وحرم قتلهم وقتالهم، أو على التغليب; لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول; لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة. الزهري
فإن قلت: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم،
قلت: قالوا: قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها، غير معجزي الله : لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم، أي: مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .