ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين
الأسف : الشديد الغضب فلما آسفونا انتقمنا منهم ، وقيل : هو الحزين ، خلفتموني : قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي ، وهذا الخطاب : إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه ، أو لوجوه بني إسرائيل ، وهم هارون - عليه السلام - والمؤمنون منه ; ويدل عليه قوله : اخلفني في قومي [الأعراف : 142] ، والمعنى : بئسما خلفتموني ; حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله ، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله .
فإن قلت : أين ما تقتضيه بئس من الفاعل والمخصوص بالذم؟
قلت : الفاعل مضمر يفسره ما خلفتموني ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم .
فإن قلت : أي معنى لقوله : من بعدي بعد قوله : خلفتموني ؟
قلت : معناه من بعد ما رأيتم مني ، من ، وإخلاص العبادة له ، أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد ، وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر ، حين قالوا : توحيد الله ، ونفي الشركاء عنه يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [الأعراف : 138] ، ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه ; ونحوه : فخلف من بعدهم خلف [الأعراف : 138] . أي : من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة ، يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ، ويضمن معنى سبق فيتعدى تعديته ، فيقال : عجلت الأمر ، والمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم ، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به ، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد [ ص: 512 ] بلغ آخره ولن أرجع إليكم ، فحدثتم أنفسكم بموتي ، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم ، وروي : أن السامري قال لهم - حين أخرج لهم العجل وقال هذا إلهكم وإله موسى - : إن موسى لن يرجع ، وإنه قد مات ، وروي : أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ، ثم أحدثوا ما أحدثوا وألقى الألواح : وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل ; غضبا لله وحمية لدينه ، وكان في نفسه حديدا شديد الغضب ، وكان هارون ألين منه جانبا ، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى ، وروي : أن التوراة كانت سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء ، والرحمة وأخذ برأس أخيه أي : بشعر رأسه يجره إليه : بذؤابته ، وذلك لشدة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته ، وظنا بأخيه أنه فرط في الكف ابن أم قرئ بالفتح ; تشبيها بخمسة عشر ، وبالكسر على طرح ياء الإضافة ، "وابن أمي" وبالياء ، "وابن إم" ، بكسر الهمزة والميم ، وقيل : كان أخاه لأبيه وأمه ، فإن صح فإنما أضافه إلى الأم ; إشارة إلى أنهما من بطن واحد ، وذلك أدعى إلى العطف والرقة ، وأعظم للحق الواجب ; ولأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها إن القوم استضعفوني يعني : أنه لم يأل جهدا في كفهم بالوعظ والإنذار ، وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه فلا تشمت بي الأعداء : فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلي ، وقرئ : "فلا يشمت بي الأعداء" ، على نهي الأعداء عن الشماتة ، والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله ولا تجعلني مع القوم الظالمين : ولا تجعلني في موجدتك علي وعقوبتك لي قرينا لهم وصاحبا ، أو ولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم ، لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء قال رب اغفر لي ولأخي : ليرضي أخاه ، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم . واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة ، وطلب ألا يتفرقا عن رحمته ، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة .