أوحيت إلى الحواريين : أمرتهم على ألسنة الرسل مسلمون : مخلصون ، من أسلم وجهه لله يا عيسى في محل النصب على إتباع حركة الابن ، كقولك : يا زيد بن عمرو ، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموما كقولك : يا زيد بن عمرو ، والدليل عليه قوله [من المتقارب] :
[ ص: 313 ]
أحار بن عمرو كأني خمر ويبدو على المرء ما يأتمر
لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم . فإن قلت : كيف قالوا : هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى [ ص: 314 ] ادعاءهم لهما ، ثم أتبعه قوله : إذ قال فآذن أن دعواهم كانت باطلة ، وأنهم كانوا شاكين ، وقوله : "هل يستطيع ربك" كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ، وكذلك قول عيسى - عليه السلام - لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إن كنتم مؤمنين : إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة ، وقرئ : "هل تستطيع ربك" ، أي : هل تستطيع سؤال ربك ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله ، والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، وهي من "ماده" إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه ونكون عليها من الشاهدين : نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية ولك وبالنبوة ، عاكفين عليها ، على أن "عليها" في موضع الحال ، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الإيمان والإخلاص ، وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا ، وقرئ : "ويعلم" بالياء على البناء للمفعول . "وتعلم" . "وتكون" ، بالتاء ، والضمير للقلوب اللهم أصله يا الله . فحذف حرف النداء ، وعوضت منه الميم ، و ربنا : نداء ثان تكون لنا عيدا أي : يكون يوم نزولها عيدا . قيل : هو يوم الأحد ، ومن ثم اتخذه النصارى عيدا ، وقيل : العيد السرور العائد ، ولذلك يقال : يوم عيد . فكان معناه : تكون لنا سرورا وفرحا ، وقرأ عبد الله : "تكن" ، على جواب الأمر ، ونظيرهما . "يرثني" "ويرثني" لأولنا وآخرنا بل من "لنا" بتكرير العامل ، أي : لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا ، وقيل : يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم ، ويجوز للمتقدمين منا والأتباع ، وفي قراءة زيد : "لأولانا وأخرانا" ، والتأنيث بمعنى الأمة والجماعة عذابا : بمعنى تعذيبا ، والضمير في "لا أعذبه" للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء ، وروي أن عيسى - عليه السلام - لما أراد الدعاء لبس صوفا ، ثم قال : اللهم أنزل علينا ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى - عليه السلام - وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، وقال لهم : ليقم [ ص: 315 ] أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها . فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك ، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا الله ويزدكم من فضله ، فقال الحواريون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال يا سمكة احيي بإذن الله ، فاضطربت . ثم قال لها : عودي كما كنت ، فعادت مشوية . ثم طارت، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير المائدة ، وروي أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى : فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه قالوا : لا نريد فلم تنزل ، وعن والله ما نزلت ، ولو نزلت لكان عيدا إلى يوم القيامة ، لقوله "وآخرنا" والصحيح أنها نزلت . الحسن :