[ ص: 307 ] يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين
ارتفع اثنان على أنه خبر للمبتدأ الذي هو شهادة بينكم على تقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين . أو على أنه فاعل "شهادة بينكم" على معنى : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان : وقرأ : "شهادة بينكم" بالتنوين ، وقرأ الشعبي : "شهادة" ، بالنصب والتنوين على : ليقم شهادة اثنان ، و الحسن إذا حضر ظرف للشهادة ، و حين الوصية بدل منه ، إبداله منه دليل على ، وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها ، وحضور الموت : مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل وجوب الوصية منكم : من أقاربكم ، و من غيركم : من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض يعني إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية ، وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وما هو أصلح وهم له أنصح ، وقيل "منكم" من المسلمين ، "ومن غيركم " : من أهل الذمة ، وقيل : هو منسوخ لا تجوز وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر ، وعن شهادة الذمي على المسلم ، نسخها قوله تعالى : مكحول : وأشهدوا ذوي عدل منكم [الطلاق : 2] وروي : أنه خرج بديل بن أبي مريم مولى وكان من المهاجرين ، مع عمرو بن العاص عدي بن زيد - وكانا نصرانيين - تجارا إلى وتميم بن أوس الشام ، فمرض بديل وكتب كتابا فيه ما معه ، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ، ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ، فغيباه ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء ، فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت تحبسونهما : تقفونهما وتصبرونهما للحلف من بعد الصلاة : من بعد صلاة [ ص: 308 ] العصر ، لأن وقت اجتماع الناس ، وعن بعد صلاة العصر أو الظهر ; لأن أهل الحسن : الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما ، وفي حديث بديل : أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر ، فحلفا ، ثم وجد الإناء بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي ، وقيل : هي صلاة أهل الذمة ، وهم يعظمون صلاة العصر إن ارتبتم : اعتراض بين القسم والمقسم عليه ، والمعنى : إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما ، وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين ، وإن أريد بهما الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما ، وعن - رضي الله عنه - : أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما والضمير في ، "به" للقسم ، وفي علي كان للمقسم له يعني : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا ، أي : لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريبا منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في [ ص: 309 ] صدقهم وأمانتهم أبدا ، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين [النساء : 135] شهادة الله أي : الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها ، وعن أنه وقف على شهادة ، ثم ابتدأ الله بالمد ، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه ، وروي عنه بغير مد على ما ذكر الشعبي أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام ، فيقول : الله لقد كان كذا ، وقرئ : "لملاثمين" بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها ، كقوله : عاد لولي ، فإن قلت : ما موقع "تحبسونهما"؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما ، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما ، فقيل : "تحسبونهما" فإن قلت : كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت : لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها ، أغنى ذلك عن التقييد ، كما لو قلت : في بعض أئمة الفقه : إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر ، ويجوز أن تكون اللام للجنس ، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفا في النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور سيبويه إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [العنكبوت : 45] فإن عثر : فإن اطلع على أنهما استحقا إثما أي : فعلا ما أوجب إثما ، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين فآخران : فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم : أي : من الذين استحق عليهم الإثم . معناه من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرتهم ، وفي قصة بديل : أنه لما ظهرت خيانة الرجلين ، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما الأوليان : الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، وارتفاعهما على : هما الأوليان كأنه قيل : ومن هما؟ فقيل : الأوليان ، وقيل : هما بدل من الضمير في "يقومان" ، أو "من آخران" ، ويجوز أن يرتفعا بـ “ استحق" ، أي : من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال ، وقرئ "الأولين" على أنه وصف للذين استحق عليهم ، مجرور ، أو منصوب على المدح ، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها ، وقرئ : "الأولين" على التثنية ، وانتصابه على المدح ، وقرأ : "الأولان" ، ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي ، الحسن وأصحابه لا يرون ذلك . فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما ، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء . فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ "استحق عليهم الأوليان" على البناء للفاعل ، وهم وأبو حنيفة علي وأبي قلت : معناه من الورثة الذي استحق عليهم الأوليان [ ص: 310 ] من بينهم بالشهادة ، أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين ، "ذلك " : الذي تقدم من بيان الحكم وابن عباس ؟ أدنى أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان : أن تكر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل واسمعوا سمع إجابة وقبول .