وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام
يوم يأتيهم العذاب : مفعول ثان لأنذر، وهو يوم القيامة، ومعنى أخرنا إلى أجل قريب : ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحد من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك، أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله: لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق [المنافقون: 10]، أولم تكونوا أقسمتم : على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا، ولما استولى عليهم من عادة وأن يقولوه بلسان الحال; حيث بنوا [ ص: 392 ] شديدا وأملوا بعيدا، و الجهل والسفه، ما لكم : جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله: "أقسمتم" ، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا، من زوال ، والمعنى: أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء، وقيل: لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني: كفرهم بالبعث، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [النحل: 38]، يقال: سكن الدار وسكن فيها، ومنه قوله تعالى: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم [إبراهيم: 45] ; لأن السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل: تعديه بـ"في"، كقولك: قر في الدار وغني فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوأها وأوطنها، ويجوز أن يكون: سكنوا من السكون، أي: قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله، وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا، وتبين لكم : بالإخبار والمشاهدة، "كيف": أهلكناهم وانتقمنا منهم، وقرئ: "ونبين لكم" بالنون، وضربنا لكم الأمثال أي: صفات ما فعلوا، وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم، وقد مكروا مكرهم أي: مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، وعند الله مكرهم : لا يخلو إما أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأول، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال : وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال، معدا لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة: 143]، والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا، وتنصره قراءة : "وما كان مكرهم"، وقرئ: "لتزول": بلام الابتداء، على: "وإن كان مكرهم" من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع [ ص: 393 ] من أماكنها، وقرأ ابن مسعود علي -رضي الله عنهما-: "وإن كاد مكرهم"، وعمر مخلف وعده رسله يعني: قوله: إنا لننصر رسلنا [غافر: 51]، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة: 51].
فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده ؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأول ؟
قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله: إن الله لا يخلف الميعاد [الرعد: 31]، ثم قال: "رسله": ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا -وليس من شأنه إخلاف المواعيد- كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ؟ وقرئ: "مخلف وعده رسله"، بجر الرسل، ونصب الوعد، وهذه في الضعف كمن قرأ: "قتل أولادهم شركائهم" [الأنعام: 137]، "عزيز": غالب لا يماكر، "ذو انتقام": لأوليائه من أعدائه.