واستفتحوا : واستنصروا الله على أعدائهم، إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح [الأنفال: 19]: أو استحكموا الله، وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق [الأعراف: 89]، وهو معطوف على: فأوحى إليهم ، وقرئ: "واستفتحوا" بلفظ الأمر، وعطفه على: "لنهلكن"، أي: أوحى إليهم ربهم، وقال لهم: لنهلكن، وقال لهم: استفتحوا، وخاب كل جبار عنيد معناه: فنصروا وظفروا وأفلحوا، وخاب كل جبار عنيد، وهم قومهم، وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه، من ورائه : من بين يديه، قال [من الوافر]:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
[ ص: 370 ] وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف.
فإن قلت: علام عطف "ويسقى" ؟
قلت: على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها، فخصص بالذكر مع قوله: ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت .
فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: من ماء صديد ؟
قلت: صديد عطف بيان لماء، قال: "ويسقى من ماء"، فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله: "صديد"، وهو ما يسيل من جلود أهل النار، يتجرعه : يتكلف جرعه، ولا يكاد يسيغه : دخل كاد للمبالغة، يعني: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله: لم يكد يراها [النور: 40]، أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟، ويأتيه الموت من كل مكان : كأن أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام، وقيل: "من كل مكان": من جسده حتى من إبهام رجله، وقيل: من أصل كل شعرة، ومن ورائه : ومن بين يديه، عذاب غليظ : أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ، وعن : هو قطع [ ص: 371 ] الأنفاس وحبسها في الأجساد، ويحتمل أن يكون أهل الفضيل مكة قد استفتحوا أي: استمطروا -والفتح: المطر- في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار، واستفتحوا -على هذا التفسير-: كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم.