وقوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق ، والمراد - بالذين كفروا - بنو النضير - بوزن الأمير - وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ، ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر ، ويقال : إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى .
وقيل : إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق ، وقال لهم : لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان ، وروي عن أنهم الحسن بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى ، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب ، والثاني متعلق - بأخرج - وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا ، وضمير " هو " راجع إليه تعالى بعنوان العزة والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام ، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به [الأنعام : 46] أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة ، وقوله تعالى : لأول الحشر متعلق - بأخرج - واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون . ومآلها إلى معنى - في -الظرفية ، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا : إنها بمعنى - في - إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات ، وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ، ومعنى أولالحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا ، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبلولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم ، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام ، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر ، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء رضي الله تعالى عنه إياهم من عمر خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام .
وعن من شك أن المحشر ها هنا يعني عكرمة الشام فليقرأ هذه الآية ، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم [ ص: 40 ]
إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل ، وهو يوم القيامة من القبور ، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة أنهما قالا : المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : والزهري ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا ، وقيل : آخر حشرهم أن «اخرجوا قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر » ، وعن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره ، وهو كما ترى ، وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم ، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ، ولذا قيل : إنه الظاهر ، وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر ، وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل ، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا ، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير ، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخت ، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية الحسن ما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم .
وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى - فحصونهم - مبتدأ و " مانعتهم " خبر مقدم ، والجملة خبر " أن " وكان الظاهر لمقابلة ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين ، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء - بمانعتهم . وحصونهم - مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم ، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، فجيء بضمير - هم- وصير اسما - لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرحالطيبي ، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث ، ومنع بعضهم جواز الإعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا ، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل ، نعم اختار صاحب الفرائدأن يكون «حصونهم » فاعلا - لمانعتهم - لاعتماده على المبتدأ .
وجوز كون مانعتهم مبتدأ خبره حصونهم ، وتعقب بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية ، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل ، وكانت حصونهم على ما قيل أربعة : الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة ، وزاد بعضهم الوخدة وبعضهم شقا ، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به فأتاهم الله أي أمره سبحانه ، وقدره عز وجل المتاح لهم من حيث لم يحتسبوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح [ ص: 41 ] وابن جريج
قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقل شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة ، وقيل : ضمير فأتاهم و لم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، وفيه تفكيك الضمائر .
وقرئ فآتاهم الله ، وهو حينئذ متعد لمفعولين ثانيهما محذوف . أي فآتاهم الله العذابأو النصر وقذف في قلوبهم الرعب أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب ، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد ، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم .
يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواهالأزقة ، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وأيدي المؤمنين حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم ، وبهذا الاعتبار عطفت " أيدي المؤمنين " على - أيديهم - وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم - فيخربون - على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز ، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قلوبهم أو لا محل لها من الإعراب ، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب ؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها .
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى «يخربون » بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول ، وجوز أن يكون في الفاعل ، وقال وأبو عمرو أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه ، فالإخراب يكون أثر التخريب ، وقيل : هما بمعنى عدي خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فاعتبروا يا أولي الأبصار فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى -الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين - إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه .
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا : إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر - وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب - ثبتت ، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق ، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : " مشروعية العمل بالقياس إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " [آل عمران : 13 ، النور : 44] وإن لكم في الأنعام لعبرة [النحل : 66] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال : إنه غير معتبر ، ولو كان القياس هو الاعتبار - لم يصح هذا السلب - سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة - فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي - سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم : إنه إذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم ، وإن كان أسود ، [ ص: 42 ]
وهو بعدالتخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محلالتخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم ، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتبالشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال - وهو القياس . والآيتان على ذلك - ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا ، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة ، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به ، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة ، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه ، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق .
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهورد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة ، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية