الخامس مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر، لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين مع أنه مصدق، السادس من لم يحكم بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون السابع أن الزاني كذلك بنص قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر، وأمثال ذلك، الثامن أن المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع، التاسع أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى: (لا يزني الزاني وهو مؤمن)، وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام لقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه العاشر أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه، كما في سائر الأفعال، مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا، مع أن التصديق غير باق فيهما، الحادي عشر أنه يلزم أن يقال لمن صدق بآلهية غير الله سبحانه مؤمن، وهو خلاف الإجماع، الثاني عشر أن الله تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركا، فقال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ولو كان هو التصديق لامتنع مجامعته للشرك، سلمنا أنه هو، ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية ، كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان؟ وأجيب عن الأول بأن التصديق للواحد، وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا، إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها، أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات، وعدم عروضها، وللنبي الأكمل الأكمل صلى الله تعالى عليه وسلم.
وللزنبور والبازي جميعا لدى الطيران أجنحة وخفق ولكن بين ما يصطاد باز
وما يصطاده الزنبور فرق
ومن هنا قيل : الغيب مشاهدة الكل بعين الحق، فقد يمنح العبد قرب النوافل، فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نورا، فهناك يكون الغيب له شهودا، والمفقود لدينا عنده موجودا، ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه: إنه يعلم الغيب قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله
وقل لقتيل الحب وفيت حقه وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة، وأفيد، وهو المروي عن ترجمان القرآن رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن عباس ، ابن جرير من طرق عنه، ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو حمل لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله، حيث إنه المناسب لترتيب الهدى الكامل، والفلاح التام الشامل، وفيه المدح العظيم والثناء العميم، ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه الأخيرة، وتعين الأخير كما قيل في حديث: وابن أبي حاتم محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)، لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم، إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل: يصلون، والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام، ولكل مقام مقال، فافهم، (والصلاة) في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان، لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة، الحال والفعل والمقال، والمشهور في أصول الفقه أن (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، وإن كان صائما فليصل)، المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية، والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق، وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية، وقال ورجحه أبو علي السهيلي : الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر، لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع، واستحسنه وسمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد، وقيل: أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان، فشبهت بالمصلي من الخيل للآتي مع صلوي السابق، وأنكر الإمام الاشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة من أشهر الألفاظ، فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد، وأكاد أوافقه وإن قيل: إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل، وقيل: من صليت العصا إذا قومتها بالصلي، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار، وهي فعلة [ ص: 117 ] بفتح العين، على المشهور، وجوز بعضهم سكونها، فتكون حركة العين منقولة من اللام، وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة، ونجاة، ومناة، وصلاة، وزكاة، وحياة، حيث كن موحدات مفردات محلات باللام، وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف، وحذفت من بعض المصاحف العثمانية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال ابن جني، الجعبري : ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو إتباع للتفخيم، وهذا معنى قول : بعض ابن قتيبة العرب يميلون الألف إلى الواو، ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم، وكلام الفصحاء، والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس، كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل، كما قاله الجمهور، والأول هو المروي عن رضي الله تعالى عنهما، وادعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال: ابن عباس (والرزق) بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به، وقيل: إنه يعم غيره كالنبات، وبالكسر اسم منه، ومصدر أيضا على قول، وقيل: أصل الرزق الحظ، ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به، وبمعنى الملك، وبمعنى الشكر عند أزد، واختلف المتكلمون في معناه شرعا، فالمعول عليه عند (والله لا أزيد عليها، ولا أنقص منها، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح الأعرابي إن صدق)، الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به، سواء كان حلالا أو حراما، من المطعومات، أو المشروبات، أو الملبوسات أو غير ذلك، والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به، ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقا، لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به، وفي جعلها رزقا بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق غيره، لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل، إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون الانتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني، إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال: إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده، والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه، وتارة بما أعطاه الله تعالى لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه، وأنه لا رازق إلا الله سبحانه، وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام، وما يستند إلى الله تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما وعقابا، قالوا: إن الرزق هو الحلال، والحرام ليس برزق، وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن، وعندنا الكل منه وبه وإليه قل كل من عند الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله تصير الأمور والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار، نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن، فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل، فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفين وقال تعالى : أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم فالحرام رزق في نفس الأمر، لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه، والدليل على شمول الرزق له ما أخرجه ابن ماجه، وأبو نعيم من حديث والديلمي صفوان بن أمية قال: عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله، إن الله قد كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغنى من غير فاحشة، فقال صلى الله عليه وسلم : لا إذن لك، ولا كرامة، ولا نعمة، كذبت، أي عدو الله، لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله)، وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل قوله عليه الصلاة والسلام (فاخترت) إلخ، كونه رزقا لمن أحل له، فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال، خلاف الظاهر جدا، ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى على وجه الأرض دليل، والطعن في السند لا يقبل من غير مستند، وهو مناط الثريا، كما لا يخفى، والاستدلال على هذا المطلب كما فعل (جاء وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي [ ص: 118 ] به طول عمره مرزوقا، وليس كذلك لقوله تعالى: البيضاوي وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ليس بشيء، لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء، بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل، بل التمكن فيه، فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعا محلالا، لا رضعة من ثدي، ولا شربة من ماء مباح، ولا نظرة إلى محبوب، ولا وصلة إلى مطلوب، بل ولا تمكن من ذلك أصلا، والعادة تقضي بعدم وجوده، ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا: إن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه، و فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش يوما مثلا، ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما، وما يكون جوابنا لهم، يكون جوابهم لنا، على أن الآية لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه، فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق، ويمكن من الانتفاع به، فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضا قد يقال : معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية، فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها، كما لا يدخل السمك في قولهم: كل دابة تذبح بالسكين، أي كل دابة تتصف بالمذبوحة، فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلا، والأحسن الاستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة ، على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام، والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث، وهي تكفي في مثل هذه المسألة، والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا، (والإنفاق) الإنفاد يقال: أنفقت الشيء، وأنفدته بمعنى، والهمزة للتعدية، وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب، ومنه نافق، والنافقاء ونفق، وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد، أو لأنه مقدم على الإنفاق في الخارج، ولتناسب الفواصل، والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي، ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام، قيل: ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به، فإذا وجد صاحبه دفع قيمته، أو مثله إليه، فهذا الإنفاق مما يثاب عليه، لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح، لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه، وانتقل بالضمان إلى ملكه، وتبدلت الحرمة إلى ثمنه، على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد، فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه، لأنه آثم ولا لرب المال، لأنه لا نية له، ولا ثواب بدونها، وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله، وقيل: إنه نفع حصل بماله، وتولد منه، ومثله يثاب عليه، كالولد الصالح يؤجر به، وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض وهو من الغرابة بمكان أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير، وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين، مرة على الغصب، ومرة على الفسق، فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولا يرد على ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: وقوله: (لا يقبل الله صدقة من غلول)، لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه، لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام، والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)،
وقد اختلف في الإنفاق ها هنا فقيل وهو الأولى: صرف المال في سبل الخيرات، أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة، وعلم لا يقال به، ككنز لا ينفق منه، وعن الزكاة، وعنه وعن ابن عباس نفقة العيال، وعن ابن مسعود التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد، ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم جعلها خلافا، ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها [ ص: 119 ] بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن، ومن التبعضية حينئذ مما لا يسئل عن سرها، إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال، وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا، ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح، ولا يتوقف على إنفاق جميع المال، وقول مولانا الضحاك تبعا البيضاوي : إنه للكف عن للزمخشري مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة، ويتجرع مرارة الإضافة، وإلا فقد تصدق الإسراف المنهي عنه رضي الله تعالى عنه بجميع ماله، ولم ينكره عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، ومن ها هنا لما قيل الصديق للحسن بن سهل: لا خير في الإسراف، قال: لا إسراف في الخير، وقيل: النكتة في إدخال من التبعضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام، فأدخلت إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال، وهو بعض من الرزق، (وما) في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة، والأول أولى، فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة، والانفصال في مثله واجب، وإن قدر منفصلا امتنع حذفه، إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض، وإذا حذف فأتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل، أما الأول فبأنه لما اختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز اتصالهما، وإن اتحدا رتبة كقوله :
لوجهك في الإحسان بسط وبهجة أنا لهماه قفو أكرم والد