ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة، وهذا الذكر حروف التهجي في الأول، وهي تقطع بها الحروف، وهو لا يكون إلا في حقنا، وعدم ذكرها في الثاني، فلذا اختلف المقامان، وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي ، وهو عند قوم تحقيق، ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق، وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ، وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة، فكل ما وجد منه اضمحل، وتلاشى، وصار منقضيا غائبا عن الحس، وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل: لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام : ذلك نتلوه عليك ثم قال تعالى : إن هذا لهو القصص الحق وله نظائر في الكتاب الكريم، ونقله الجرجاني عن طائفة، وأنشدوا :
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
وليس بنص، لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به، وقول الإمام : إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا، فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية، وفوق كل ذي علم عليم، والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما نقل عن الرازي إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له، وإلا ضربنا به الحائط، وما كل احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط [ ص: 106 ] المستقيم في الفاتحة، كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه، هو الكتاب، وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه، وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره، والذي تنفتح له الآذان أنه إشارة إلى القرآن، ووجه البعد ما ذكره صاحب المفتاح، ونور القرب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد، فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو: عكرمة، ذلكم الله ربكم أو إلى محسوس غير مشاهد نحو: (تلك الجنة)، فلتصييره كالمشاهد، وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضي فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم: إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا، وهم محسوس، والكتاب كالكتب مصدر كتب، ويطلق على المكتوب، كاللباس بمعنى الملبوس، والكتب كما قال ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض، والأصل في الكتابة النظم بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، ولذا يستعار كل واحد للآخر، ولذا سمي كتاب الله، وإن لم يكن كتابا، والكتاب هنا إما باق على المصدرية، وسمي به المفعول للمبالغة، أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يئول إليه مع المناسبة، وقول الإمام: إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق، كلام ملفق لا يخفى ما فيه، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء، ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم، ولا أرى فيه بأسا، إن احتجته، واللام في الكتاب للحقيقة، مثلها في: أنت الرجل، والمعنى: ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس، حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه، وقال الراغب ابن عصفور : كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء، وإذا الفجائية فهي للعهد الحضوري، وقرئ: (تنزيل الكتاب)، والريب الشك، وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس، ومنه ريب الزمان لنوائبه، فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه به، ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول الإمام : إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل، فهو كالمشكوك، وكذلك ما اختلج في القلب، فإنه غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب، أو يشك فيه، ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا، مما لا ريب فيه، أو فيه ريب، وفرق الرازي أبو زيد بين رابني، وأرابني فيقال: رابني من فلان أمر، إذا كنت مستيقنا منه بالريب، وإذا أسأت به الظن، ولم تستيقن منه، قلت: أرابني، وعليه قول بشار :أخوك الذي إن ربته قال إنما أراب وإن عاتبته لان جانبه
وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا
خل الذنوب كبيرها وصغيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه، لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه، فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام والعقول، أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه، كما ذهب إليه الشافعية، فهو بعد التبيين هدى، وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها، كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله تعالى، ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد نص الإمام على أنه كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه، كمعرفة ذات الله، وصفاته، ومعرفة النبوات، لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدى في تأكيد ما في العقول، والاعتداد به، وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء، حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية، وحججه اليقينية، كما يشعر به ظاهر قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية [ ص: 110 ] مدحا لهم، ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا، وانتفعوا به، كما قال تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها مع عموم إنذاره صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما غيرهم فلا، وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وأما القول بأن التقدير: هدى للمتقين، والكافرين، فحذف لدلالة المتقين على حد سرابيل تقيكم الحر فمما لا يلتفت إليه، هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق فـ الم أشارت إلى ما أشارت، و ذلك الكتاب قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه، أي باب التحدي والهداية، و لا ريب فيه كالتأكيد لأحد الركنين، و هدى للمتقين كالتأكيد للركن الآخر.
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة، وكماله في نفسه، وفيما هو المقصود منه، وقيل : بالحمل على الاستئناف، كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى، وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب، ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه هدى للمتقين لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية، بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله، وحسه، وقد يقال: الإعجاز مستلزم غاية الكمال، وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيقته، وذلك مقتض لهدايته وإرشاده، فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المآل كان الثاني مقررا للأول، فلذا ترك العطف، وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق، فالأول لاستلزامه ما يليه، وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة، فوزانه وزان حسنها، في أعجبتني الجارية حسنها، وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل، وفيها أيضا من النكت الرائقة، والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره، على من مر ما ذكرناه على فكره.