هو الذي خلقكم استئناف لبيان ما يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم، وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ؛ أي: هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه الجمهور وجعل منها [ ص: 138 ] أي: من جنسها كما في قوله سبحانه: جعل لكم من أنفسكم أزواجا فمن ابتدائية والمشهور أنها تبعيضية. أي: من جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام اليسرى، والكيفية مجهولة لنا، ولا يعجز الله تعالى شيء، والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب فيه، وهو إما بمعنى صير فقوله سبحانه: زوجها مفعوله الأول، والثاني هو الظرف المقدم، وإما بمعنى أنشأ، والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا أو بمحذوف وقع حالا من المفعول. ليسكن إليها علة غائية للجعل. أي: ليستأنس بها ويطمئن إليها، والضمير المستكن للنفس، وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات السماعية؛ ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر باعتبار أن المراد منها آدم، ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى والمقصود خلافه، وذكر أن التذكير أحسن طباقا للمعنى، وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرا بالميل وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لا سيما وقد أكد بالفاء في قوله تعالى: الزمخشري فلما تغشاها والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته أيضا إليه، وإن كان من الجانبين، وفيه إيماء إلى أن تكثير النوع علة المؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة، وأيضا لما جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج لسكونه بعد الاستيحاش لا العكس؛ فإنه غير ملائم لفظا ومعنى، لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه فمذكر وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وجاء ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نفيسة فليفهم. والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو بمعنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي: فلما جامعها حملت حملا خفيفا أي: محمولا خفيفا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه. وقد حكي في كل منهما الكسر والفتح، وجوز أن يكون هنا مصدرا منصوبا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم التأذي أي: حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما تلقى بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية. فمرت به أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس والمراد: بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه. والقول بأنه من القلب أي: فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد، وقرأ والضحاك، وغيره (مرت) بالتخفيف فقيل: إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية أي: الشك أي: شكت في أمر حملها. أبو العالية
وقرأ ابن عمر والجحدري (فمارت) من مار يمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت، وحذفت لامه للساكنين. فلما أثقلت أي: صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها، فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم: أتمر وألبن أي: صار ذا تمر ولبن، وقيل: إنها للدخول في زمان الفعل أي: دخلت في زمان الثقل كأصبح دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني، لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيقي، وقرئ: (أثقلت) بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية، أي: أثقلها حملها. دعوا الله أي: آدم وحواء عليهما السلام [ ص: 139 ] لما خافا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل ربهما أي: مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء.
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعهود منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به، أي: دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين: لئن آتيتنا صالحا أي: نسلا من جنسنا سويا، وقيل: ولدا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة. وعن الحسن: غلاما ذكرا وهو خلاف الظاهر: لنكونن نحن أو نحن ونسلنا من الشاكرين الراسخين في الشكر لك على إيتائك. وقيل: على نعائمك التي من جملتها هذه النعمة.
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك.