ص ( للظهر من زوال الشمس لآخر القامة بغير ظل الزوال )
ش : [ ص: 383 ] شرع - رحمه الله - يتكلم على بيان الوقت المختار للصلوات الخمس وبدأ بالظهر ; لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وكذلك فعل جماعة من المصنفين ، ومنهم من بدأ بالصبح ; لأنها الوسطى ، ولأنها في أول النهار وسميت الظهر ; لأن وقتها أظهر الأوقات ; لأنه يعرف بزيادة الظل ، وقيل : لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام ، ولذلك تسمى الأولى ، وقيل : لأنها تصلى في وقت الظهيرة أي : شدة الحر ، ولذلك تسمى صلاة الهجيرة ; لأنها تصلى في وقت الهاجرة وهي شدة الحر وذكر المصنف - رحمه الله تعالى - أن أول وقتها زوال الشمس أي ميلها عن وسط السماء ويعرف ذلك بزيادة الظل ; لأن الظل في أول النهار يكون ممتدا ولا يزال ينقص ما دامت الشمس في جهة المشرق إلى أن تصير الشمس في وسط السماء فإذا مالت الشمس إلى جهة المغرب أخذ الظل في الزيادة وذلك هو الزوال ، ولا بد أن يزيد الظل زيادة بينة فحينئذ يدخل فإن الزوال عند أهل الميقات يحصل بميل مركز الشمس عند خط وسط السماء ، والزوال الشرعي إنما يحصل بميل قرص الشمس عن خط وسط السماء ، وكذلك للغروب ميقاتي وشرعي فالميقاتي غروب مركز الشمس والشرعي غروب جميع قرص الشمس ، وكذلك الشروق الميقاتي هو شروق مركز الشمس والشرعي شروق أول حاجب الشمس ويحصل الشرعي من ذلك كله بعد الاصطلاحي بنحو نصف درجة وذلك قدر قراءة قل هو الله أحد ثلاثين مرة قراءة معتدلة مع البسملة في كل مرة وإذا تبينت زيادة الظل فقد مضى هذا المقدار يقينا ، ونقل وقت الظهر الأبي عن صاحب القوت أنه قال : الزوال ثلاثة : زوال لا يعلمه إلا الله - تعالى - . وزوال تعلمه الملائكة المقربون عليهم السلام . وزوال تعرفه الناس . قال : وجاء في الحديث أنه { صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام هل زالت الشمس ؟ فقال : لا نعم . فقال : ما معنى لا نعم ؟ قال : يا رسول الله قطعت الشمس من فلكها بين قولي لا نعم مسيرة خمسمائة عام } انتهى .
وقوله لآخر القامة يعني أن وقت الظهر المختار ممتد من الزوال إلى آخر القامة الأولى والمراد بذلك أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال ، وإنما قال لآخر القامة ; لأنه جرت عادة الفقهاء بالتعبير بالقامة ; لأنها لا تتعذر وإلا فكل قائم يشاركها في ذلك ، والأصل في تحديد أوقات الاختيار ما رواه أبو داود والترمذي من حديث رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ابن عباس جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين كان الظل مثل الشراك ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثل ظله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين بزق الفجر وحرم الطعام على الصائم وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ثم صلى المغرب لوقته الأول ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفرت الشمس ثم التفت جبريل ثم قال يا محمد هذا وقت الأنبياء قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين } قال أمني الترمذي حديث حسن ، وهذا لفظه وبزق بالزاي أي بزغ ورواه الترمذي من حديث والنسائي بمعناه وفيه فصلى الظهر حين زالت الشمس قدر الشراك قال جابر الترمذي هو حديث حسن قال وقال هو أصح شيء في المواقيت وقوله في الرواية الأولى مثل الشراك هو السير الذي يكون على وجه النعل وهو كناية عن أول ظهور الظل وقوله حين وجبت الشمس أي : سقطت بالغروب . البخاري
( فائدة ) ذكر الغزالي هذا الحديث بلفظ أمني عند باب البيت فاعترضه النووي بأنه ليس في الكتب المشهورة قال شيخ شيوخنا الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : وليس اعتراضه جيدا ; لأن هذا اللفظ رواه [ ص: 384 ] ، وهكذا رواه الشافعي البيهقي في مشكل الآثار وفيه من أنه كان صلاته إلى والطحاوي البيت مع أنه صلى الله عليه وسلم كان مستقبل بيت المقدس انتهى .
( قلت : ) لفظ الأم أمني جبريل عند باب الكعبة ، وقوله وصلاته إلى البيت ليس في قوله أمني عند باب البيت وباب الكعبة ما يقتضي أنه صلى إليها فتأمله .
( فائدة أخرى ) قال : " هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك " لا توجد هذه اللفظة إلا في هذا الحديث وقوله بغير ظل الزوال يعني به أن القامة إنما تعتبر بعد ظل الزوال وهو الظل الموجود عند الزوال وهو يزيد في الشتاء وينقص في الصيف ويختلف باختلاف البلاد وقد يعدم في بعض البلاد وذلك إذا كان عرض البلد قدر الميل الأعظم فأقل ، والميل الأعظم أربع وعشرون درجة تقريبا وعرض البلد عبارة عن بعدها عن خط الاستواء أي وسط الأرض فإن كان عرض البلد أربعا وعشرين درجة ابن عبد البر كالمدينة الشريفة فيعدم الظل فيها مرة واحدة في السنة وذلك في آخر فصل الربيع أعني إذا كانت الشمس في آخر الجوزاء فتكون الشمس حينئذ مسامتة لرءوسهم عند الزوال وإذا كان عرض البلد أقل من أربع وعشرين درجة فيعدم الظل فيها في السنة مرتين مرة في فصل الربيع ومرة وفي فصل الصيف وذلك إذا كان ميل الشمس قدر عرض البلد كمكة المشرفة فإن عرضها إحدى وعشرون درجة فإذا كان ميل الشمس إحدى وعشرين درجة كانت الشمس مسامتة لرءوسهم فيعدم الظل حينئذ عند الزوال ويعرف الزوال في يوم المسامتة بوجود الظل بعد انعدامه ويعرف آخر وقت الظهر بأن يصير ظل كل شيء مثله من غير زيادة .
واعلم أن المسامتة الحقيقية إنما تكون في يوم واحد في السنة ، أو في يومين كما ذكرناه ولكن ما قارب يوم المسامتة قبله أو بعده مما لا يظهر فيه للظل وجود محسوس فحكمه حكم يوم المسامتة ، وأما البلاد التي يكون عرضها أكثر من أربع وعشرين درجة فلا يعدم فيها ظل الزوال دائما كمصر والشام والمغرب ولكنه يزيد وينقص فيكثر في أيام الشتاء ويقل في أيام الصيف ويختلف بحسب البلاد فلا يصح الاعتماد على الأقدام التي ذكرها أبو مقرع للزوال إلا في بلاد مراكش وما كان مثلها في العرض ، أو قريبا منها على مسافة يومين ، أو قريبا من ذلك وطريق معرفة الزوال وظل الزوال أن تنصب شاخصا في أرض مستوية قرب الزوال وتعلم على رأس ذلك علامة ، أو تدير عليه قوسا ثم تنظر إلى الظل فإن نظرته نقص علمت علامة أخرى ، ولا تزال تفعل ذلك مرة بعد أخرى حتى تجده قد زال فإن زال فذلك هو الزوال وهو أول وقت الظهر والظل الموجود حينئذ هو ظل الزوال . وآخر وقت الظهر أن يزيد ظل كل شيء مثله بعد الظل الموجود حينئذ قال الفاكهاني في شرح الرسالة : لأن الاعتبار بالمثل والمثلين هو من الزيادة التي تزول عنها الشمس وما قبله لا حكم له انتهى .
فإذا أردت أن تعلم كم ظل الزوال بالأقدام فقس ذلك حينئذ بقدميك وذلك بأن تقف قائما معتدلا غير منكس رأسك في أرض مستوية وتخلع نعليك وتستدبر الشمس ، أو تستقبلها وتعلم على طرف ظلك علامة أو تأمر من يعلم لك إن كنت مستقبلا للشمس ثم تكيل ظلك بقدميك فذلك هو ظل الزوال ، وهذا الطريق عام في كل زمان ومكان . وإذا أردت آخر وقت الظهر فلتزد على ما كلته سبعة أقدام وهو قدر القامة بالأقدام على ما اختاره ابن البناء وابن الشاط وغيرهما من علماء الميقات وهو الأحوط وقال بعضهم طول القامة ستة أقدام وثلثان ، وقيل : ست ونصف ، وإنما أطلت الكلام في هذا ; لأنه وقع في عبارة جماعة من المالكية والشافعية هنا عبارات غير محررة ، ولم أر من تعرض من الشيوخ لما ذكرته والله - تعالى - أعلم .
( تنبيهات الأول ) تقدم أن الزوال يعرف بزيادة الظل ، وهذا هو الطريق [ ص: 385 ] المعروف الذي يذكره الفقهاء في كتبهم لسهولته واشتراك الناس في معرفته ، ولو عرف الوقت بغير ذلك من الآلات كالربع والأسطرلاب وغيرهما لجاز كما ذكره المازري وغيره فإن الزوال هو ميل الشمس عن خط وسط السماء قال المازري في شرح التلقين ومن الطريق إلى معرفة هذا يعني الزوال الأسطرلاب ثم قال : ومنهم من يضع خطوطا خاصة ويقسمها أقساما ويقيم فيها قائما فإذا انتهى ظل القائم إلى حد الأقسام عرف قدر ما مضى من النهار ، وهذه الطرائق كلها مذكورة في كتب المتقدمين ثم قال لكن الفقهاء كلهم إنما يسلكون المسلك الذي ذكره القاضي يعني ما تقدم من نصب العود فهذا المتعارف عند أهل الشرع وما عداه أضربوا عنه ; لأن علم الأسطرلاب يدق وقد يؤدي النظر فيه إلى النظر في علم النجوم الذي يكرهه المشرعون . وما سواه مما ذكرناه عن المتقدمين عسير مطلبه ، صعب مرامه والتعليم الحسن ما اشترك في إدراكه والإحاطة به البليد والفطن انتهى .
وقال في الذخيرة قد يعلم الزوال من غير زيادة الظل بأن يخرج خطا على وجه الأرض مسامتا لخط الزوال في السماء بالطرق المعلومة عند أرباب المواقيت فتضع فيه قائما فعند الزوال يخرج ظل القائم من الخط من غير زيادة لظل خصوصا في الصيف فهو أول الوقت الاختياري انتهى .
( قلت : ) قوله من غير زيادة ظل الزوال يعني من غير أن يراقب زيادة الظل وإلا فلا يمكن أن يخرج الظل عن الخط إلا بعد شروعه في الزيادة وقال بعده في فصل وقت صلاة العصر ويعرف الظهر بأن تضرب وتدا في حائط تكون الشمس عليه عند الزوال فإذا زالت الشمس انظر طرف ظل الوتد واجعل في يدك خيطا فيه حجر مدلى من أعلى الظل فإذا جاء الخيط على طرف الظل فخط مع الخيط خطا طويلا فإنه يكون خط الزوال أبدا فمتى وصل ظل ذلك الوتد إليه فقد زالت الشمس لكن في الشتاء يصل إليه أسفل وفي الصيف فوق .
( قلت : ) وهذا الذي ذكره إذا كان الوتد معوجا ولم يضرب في الحائط على استقامة بحيث إن ظله خارج عنه يمينا ، أو شمالا ، وأما إذا كان مستقيما وظله تحته فتخط الخط على ظله ، ولا بد أن تعرف الزوال في اليوم الذي تضرب فيه الوتد بغير هذه الطريق وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة بعد أن ذكر أنه يعرف الزوال بعود كما تقدم قال الغزالي : ولا بأس بالميزان وكرهه ابن العربي ; لأنه ليس من فعل السلف وقال إنما كانوا يعرفون ذلك بظل الجدار وظل الإنسان ، أو غيره وقال المازري يكره الأسطرلاب واختلف في علة الكراهة انتهى .
( قلت ) تقدم كلام المازري وليس فيه تصريح بالكراهة بل ذكر أن ذلك طريق لمعرفته ولكن لم يذكره الفقهاء إما لصعوبته ، أو لأنه يؤدي إلى النظر في النجوم فتأمله ، وأما ابن العربي فلم أقف على كلامه في ذلك ، نعم قال في العارضة لما تكلم على وقت صلاة الصبح : اتفق العلماء على أن التغليس بها أفضل لكن إنما التغليس المستحب عند إسفار الفجر وبيانه للأبصار ومن صلى بالمنازل قبل تبيينه فهو مبتدع فإن أوقات الصلوات إنما علقت بالأوقات المبينة للعامة والخاصة والعلماء والجهال ، وإنما شرعت المنازل ليعلم بها قرب الصباح فيكف الصائم ويتأهب المصلي حتى إذا تبين الفجر الذي علق به الوقت صلى انتهى . وقال ابن المنير في كتابه المسمى بتيسير المقاصد لأئمة المساجد : ووقت الصبح بطلوع الفجر المعترض الذي يسد الأفق ، ولا يعتمد على المنازل إلا تقريبا فإذا ظهر له توسط المنزلة تربص حتى يرى البياض فإن كان غيم انتظر قدر ما يعلم أنه لو كان صحوا لظهر الفجر ويحتاط ، ولا يعجل ، وميزان الشمس قطعي انتهى .
وقال القرافي في الفرق الثاني والمائة : جرت عادة المؤذنين وأرباب المواقيت أنهم إذا شاهدوا المتوسط [ ص: 386 ] في درج الفلك الذي يقتضي أن ثم قال : ( فإن قلت : ) هذا جنوح منك إلى أنه لا بد من الرؤية في أوقات الصلاة وأنت قد فرقت بينها وبين رؤية الأهلة بالرؤية وعدمها وقلت : السبب في الأهلة الرؤية وفي أوقات الصلاة تحقق الوقت دون رؤيته فحيث اشترطت الرؤية فقد أبطلت ما ذكرت . درج الشمس قريب من الأفق قربا يقتضي أن الفجر طلع أمروا الناس بالصلاة والصوم مع أن الأفق قد يكون صاحيا لا يخفى فيه طلوع الفجر لو طلع ومع ذلك فلا يجد الإنسان للفجر أثرا ألبتة ، وهذا لا يجوز ، إنما نصب الشارع سبب وجوب الصلاة طلوع الفجر فوق الأفق ، ولم يظهر فلا تجوز الصلاة حينئذ ، وكذلك القول في بقية إثبات أوقات الصلوات
( قلت : ) هذا سؤال حسن والجواب عنه أني لم أشترط الرؤية في الأوقات لكن جعلت عدم اطلاع الحس على الفجر دليلا على عدمه وأنه في نفسه لم يتحقق ; لأن الرؤية هي السبب ففرق بين كون الحس سببا وبين كونه دالا على عدم السبب ففي الفجر جعلته دليلا على عدم السبب لأني اشترطت الرؤية فلو كان حسابهم يظهر معه الفجر في الصحو ويخفى في الغيم لم أستشكله لكني لما رأيت حسابهم في الصحو لا يظهر معه الفجر علمت أن حسابهم يعارض عدم السبب انتهى .
وهو كلام حسن يشير فيه إلى أن الذي علق به الوجوب في الزوال هو ما يظهر للناس لا الزوال الذي لا يدرك بالحس ، وإنما يدرك بالحساب غير أنه لا يشترط في الزوال الذي يظهر للناس رؤيته فإذا تحقق بطريق من الطرق أنه قد حصل الزوال المذكور بحيث إنه لو تأمل الحس لأدركه كفى ذلك ، ولو كان هنا غيم يمنع من رؤيته وكذا القول في غروب الشمس والشفق وطلوع الفجر بل ذكر القرافي في كتاب اليواقيت في علم المواقيت وهو كتاب يشتمل على مسائل تتعلق بأوقات الصلاة وبالأهلة : والمشهور أن بعض الأولياء ادعى أنه سمع حركة الشمس للزوال فصلى هو وجماعة الظهر ، ولم تزل الشمس في رأي العين إلا بعد ذلك فأنكر عليه الصلاة في تلك وقال إن الحق أنه يجب قضاؤها ; لأن الله - سبحانه وتعالى - كلف بالصلاة بالرؤية الظاهرية ولا يكون الزوال الذي لا تطلع عليه إلا الملائكة وخواص الأولياء بطريق الكشف سببا للتكليف ألبتة ، قال : ولو طار ولي الله - تعالى - إلى جهة السماء قبل طلوع الفجر بساعة فإنه يرى الفجر في مكانه بل ربما رأى الشمس ومع ذلك يحرم عليه صلاة الصبح حينئذ ; لأن الفجر الذي نصبه الله - تعالى - سببا لوجوب الصبح إنما هو الفجر الذي نراه على سطح الأرض فتحصل من هذا أنه إذا علم دخول الوقت بشيء من الآلات القطعية مثل الأسطرلاب والربع والخيط المنصوب على خط وسط السماء فإن ذلك كاف في معرفة الوقت وإذا أراد أن يعتمد على مجرد رؤية المنازل طالعة ، أو متوسطة فلا بد أن يتربص حتى يتيقن دخول الوقت ; لأن مجرد رؤية المنزلة طالعة ، أو متوسطة لا تفيد بمعرفة الوقت تحقيقا إنما هو تقريب بخلاف ما إذا علم توسط كوكب معلوم بالخيط المذكور وعلم مطالعه وأنه يتوسط عند طلوع الفجر ، أو العشاء فهذا يفيد معرفة دخول الوقت تحقيقا فيعتمد ذلك وسيأتي في كلام البرزلي ما يدل على ذلك .