ألا ترى أن حد السرقة مشروع بقطع اليد والرجل ; لأن تمكنه من هذا الفعل بالمشي والبطش فقطع الآلة الماشية والباطشة مانع له من ذلك ولا معنى لقولكم كيف تنفي مع المحرم أو بغير محرم ; لأن النفي هجرة واجبة فلا يعتبر فيه المحرم كالهجرة في التي أسلمت في دار الحرب ، فلما كان حدا فعلى الإمام أن يتكلف لما يحتاج إليه في إقامته كالجلد .
( وحجتنا ) فيه قوله تعالى { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فقد جعل الجلد جميع حد الزنا فلو أوجبنا معه التغريب كان الجلد بعض الحد فيكون زيادة على النص وذلك يعدل النسخ ، وروي { } ولم يأمره بالتغريب ، ولو كان ذلك حدا لتكلف له كما تكلف للحد ، وأن أن محدجا سقيما وجد على بطن أمة من إماء الحي يفجر بها فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اضربوه مائة ، فقالوا : إن بدنه لا يحتمل الضرب ، فقال صلى الله عليه وسلم : خذوا عثكالا عليه مائة شمراخ فاضربوه بها رضي الله عنه جلد عمر رضي الله تعالى عنه في داره على الزنا ، وأمر امرأته أن تكتم فلو كان التغريب متمما للحد لما أمرها بالكتمان ; لأن ذلك لا يتصور ولما نفي شارب الخمر ارتد ولحق بالروم فقال والله لا أنفي أحدا بعد هذا أبدا فلو كان مشروعا حدا لما حلف أن لا يقيمه قال أبا بكرة رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة والحد مشروع لتسكين الفتنة فما يكون فتنة لا يكون حدا . علي
وعن رحمه الله تعالى أن إبراهيم عليا رضي الله عنهما اختلفا في أم ولد زنت بعد موت مولاها قال وابن مسعود رضي الله عنه تجلد ، ولا تنفى ، وقال علي رضي الله عنه تنفى وأخذنا بقول ابن مسعود رضي الله عنه ; لأنه أقرب إلى دفع الفتنة والفساد ومعنى هذا ما ذكره في الكتاب قال أرأيت شابة زنت أكنت [ ص: 45 ] أنفيها ؟ أي في نفيها تعريض لها لمثل ما ابتليت به فإنها عند أبويها تكون محفوظة ففي دار الغربة تكون خليعة العذار ، والنساء لحم على وضم إلا ما ذب عنهن ، وإنما تبقى المرأة محفوظة بالحافظ والاستحياء وذلك ينعدم بالتغريب فيكون تعريضا لها للإقدام على هذه الفاحشة برفع المانع وهذا أولى مما قاله الخصم ; لأن ما ينشأ عن الصحبة والمؤانسة يكون مكتوما ، وما ينشأ عن المواقحة يكون ظاهرا ، فإن في هذا قطعا لسبب ما ينشأ عن المحادثة وهو مكتوم ففيه تعريض للزنا بطريق الوقاحة وهو أفحش ثم قال : أرأيت أمة زنت أكنت أنفيها ؟ فأحول بينها وبين مولاها وبين خدمتها وحق المولى في الخدمة مرعي وهو مقدم على الشرع ، وإذا ثبت أن الأمة لا تنفى فكذلك الحرة ; لأن الله قال { علي فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وإذا ثبت أن نصف الحد خمسون جلدة ثبت أن كماله مائة جلدة ثم لا يجوز أن تنفى الحرة مع المحرم ; لأن المحرم لم يزن فكيف يقام عليه الحد ؟ وبدون المحرم هي ممنوعة عن المسافرة شرعا فلا يجوز إقامة الحد بطريق فيه إبطال ما هو مستحق شرعا .
فأما المهاجرة لا تقصد السفر بغير محرم وإنما تقصد التخلص من المشركين حتى لو وصلت إلى جيش لهم منعة في دار الإسلام وأمنت لم يكن لها أن تسافر بغير محرم بعد ذلك ، فأما الحديث فقد بينا أن الجمع بين الجلد والتغريب كان في الابتداء ثم انتسخ بنزول سورة النور .
الحبس على سبيل التعزير قيل في تأويل قوله تعالى { والمراد بالتغريب أو ينفوا من الأرض } : إنه الحبس ، وقال القائل :
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
أي : محبوس ، ونحن نقول بحبس بطريق التعزير حتى تظهر توبته وإن ثبت النفي على أحد فذلك بطريق المصلحة لا بطريق الحد كما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت المخنث من المدينة ، ونفى رضي الله عنه عمر نصر بن حجاج من المدينة حين سمع قائلة تقول :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
( قال ) ; لأنه نوع من الوطء الحرام فلا يتم به عليه النعمة [ ص: 46 ] ولا يستفيد كمال الحال ، والإحصان عبارة عن ذلك ولا بالجماع في النكاح الصحيح إذا كان قال لها إن تزوجتك فأنت طالق ; لأن الدلالة قامت لنا على أنها تطلق بنفس العقد فجماعه إياها بعد ذلك يكون زنى إلا أنه لا يجب به الحد لشبهة اختلاف العلماء ولكن لا يستفاد بهذا الفعل كمال الحال ، وكذلك إن تزوج المسلم مجوسية أو مسلمة بغير شهود فدخل بها ; لأن هذا من أنواع النكاح الفاسد ولا يكون محصنا بالجماع في النكاح الفاسد