ونحن ذاكرون - إن شاء الله تعالى - ما يسر الله تعالى لذكره : فأما من قال : لا يستتابون ، فانقسموا قسمين : [ ص: 109 ] فقالت طائفة : يقتل المرتد ، تاب أو لم يتب ، راجع الإسلام أو لم يراجع .
وقالت طائفة : إن بادر فتاب قبلت منه توبته ، وسقط عنه القتل ، وإن لم تظهر توبته أنفذ عليه القتل .
وأما من قال : يستتاب ، فإنهم انقسموا أقساما : فطائفة قالت : نستتيبه مرة فإن تاب وإلا قتلناه .
وطائفة قالت : نستتيبه ثلاث مرات ، فإن تاب ، وإلا قتلناه .
وطائفة قالت : نستتيبه شهرا ، فإن تاب وإلا قتلناه .
وطائفة قالت : نستتيبه ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتلناه .
وطائفة قالت : نستتيبه مائة مرة ، فإن تاب وإلا قتلناه .
وطائفة قالت : يستتاب أبدا ، ولا يقتل .
فأما من فرق بين المسر والمعلن : فإن طائفة قالت : من أسر ردته قتلناه دون استتابة ، ولم نقبل توبته ، ومن أعلنها قبلنا توبته .
وطائفة قالت : إن أقر المسر وصدق النية قبلنا توبته ، وإن لم يقر ولا صدق النية قتلناه ولم نقبل توبته - قال هؤلاء : وأما المعلن فتقبل توبته .
وطائفة قالت : لا فرق بين المسر والمعلن في شيء من ذلك : فطائفة قبلت توبتهما معا - أقر المسر أو لم يقر .
وطائفة : لم تقبل توبة مسر ولا معلن ؟ قال رحمه الله : واختلفوا أيضا في الكافر الذمي ، أو الحربي يخرجان من كفر إلى كفر : فقالت طائفة : يتركان على ذلك ، ولا يمنعان منه . أبو محمد
وقالت طائفة : لا يتركان على ذلك أصلا .
ثم افترق هؤلاء فرقتين : [ ص: 110 ] فقالت طائفة : إن رجع الذمي إلى دينه الذي خرج عنه ترك ، وإلا قتل .
وقالت طائفة : لا يقبل منه شيء غير الإسلام وحده ، وإلا قتل ، ولا يترك على الدين الذي خرج إليه ، ولا يترك أيضا أن يرجع إلى الذي خرج عنه ، لكن إن أسلم ترك ، وإن أبى قتل ولا بد ؟ قال رحمه الله : نا أبو محمد عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار ني نا حماد بن مسعدة - عن قرة - هو ابن خالد عن حميد بن هلال عن أبيه { أبي بردة بن أبي موسى الأشعري اليمن ثم أرسل بعد ذلك فلما قدم قال : يا أيها الناس إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، فألقى له معاذ بن جبل أبو موسى وسادة ليجلس عليها ، فأتي برجل كان يهوديا فأسلم ثم كفر ، فقال : لا أجلس حتى يقتل : قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فلما قتل قعد . معاذ } أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى
ومن طريق نا البخاري عن يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثني قرة بن خالد أخبرني حميد بن هلال عن أبو بردة بن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له { أبي موسى الأشعري أبا موسى ، أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه ، فلما قدم عليه ألقى له وسادة ، قال : وإذا رجل موثق ، فقال : ما هذا ؟ قال : كان يهوديا فأسلم ثم تهود ، قال : لا أجلس حتى يقتل : قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل معاذ بن جبل } في حديث . اذهب أنت يا
وعن عن أيوب السختياني عكرمة قال : أتي بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم { ابن عباس } ولقتلتهم ، وذكر باقي الحديث . لا تعذبوا بعذاب الله
وعن أن رجلا من أبي عمرو الشيباني بني عجل تنصر ، فكتب بذلك عيينة بن فرقد السلمي إلى ، فكتب علي بن أبي طالب : أن يؤتى به ، فجيء به حتى طرح بين يديه رجل - أشعر عليه ثياب صوف - موثوق في الحديد ، فكلمه علي فأطال كلامه [ ص: 111 ] وهو ساكت - فقال : لا أدري ما تقول ؟ غير أني أعلم أن علي عيسى ابن الله ، فلما قالها قام إليه فوطئه ، فلما رأى الناس : أن علي قد وطئه قاموا فوطئوه ، فقال عليا : أمسكوا ، فأمسكوا حتى قتلوه ، ثم أمر به علي فأحرق بالنار . علي
وعن قال : بعثني أنس بن مالك بفتح أبو موسى الأشعري تستر إلى ، فسألني عمر بن الخطاب - وكان نفر ستة من عمر بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين - فقال : ما فعل النفر من بكر ؟ قال : فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم ، فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ قلت : يا أمير المؤمنين قوم ارتدوا عن الإسلام ، ولحقوا بالمشركين ، ما سبيلهم إلا القتل ؟ فقال : لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء أو بيضاء - وذكر باقي الخبر . عمر
وأما من قال : يستتاب مرة ، فإن تاب وإلا قتل : لما روينا من طريق عن عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عن أبيه قال : أخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل ابن مسعود العراق ، فكتب فيهم إلى ، فرد إليه عثمان عثمان : أن اعرض عليهم دين الحق ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، فإن قبلوها ، فخل عنهم وإن لم يقبلوها ، فاقتلهم - فقبلها بعضهم فتركه ، ولم يقبلها بعضهم فقتله .
وعن قال : أتي أبي عمرو الشيباني بشيخ كان نصرانيا فأسلم ، ثم ارتد عن الإسلام ؟ فقال له علي : لعلك إنما ارتددت لأن تصيب ميراثا ثم ترجع إلى الإسلام ؟ قال : لا ، قال : فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها فأردت أن تزوجها ثم تعود إلى الإسلام ؟ قال : لا ، قال : فارجع إلى الإسلام ؟ قال : لا ، حتى ألقى علي بن أبي طالب المسيح ، قال : فأمر به فضربت عنقه ، ودفع ميراثه إلى ولده المسلمين . علي
وعن : أن أبي عمرو الشيباني المسور العجلي تنصر بعد إسلامه فبعث به عتبة بن أبي وقاص إلى فاستتابه فلم يتب ، فقتله ، فسأله علي النصارى جيفته بثلاثين ألفا ، فأبى وأحرقه . علي
وأما من قال : يستتاب ثلاث مرات : فلما روينا من طريق عن عبد الرزاق أخبرني ابن جريج أنه [ ص: 112 ] بلغه عن سليمان بن موسى : أنه كفر إنسان بعد إيمانه ، فدعاه إلى الإسلام - ثلاثا - فأبى ، فقتله . عثمان بن عفان
وبه - إلى عن عبد الرزاق أخبرني ابن جريج حيان عن ابن شهاب : أنه قال : إذا أشرك المسلم دعي إلى الإسلام - ثلاث مرات - فإن أبى ضربت عنقه .
وأما من قال : يستتاب ثلاثة أيام ، فإن تاب وإلا قتل ، فهو قول ، وأصحابه ، وأحد قولي مالك . الشافعي
وأما من قال : يستتاب مرة فإن تاب وإلا قتل : فهو قول . الحسن بن حي
وأما من قال : يستتاب شهرا فكما روينا من طريق أنا عبد الرزاق عثمان عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي العلاء عن : أن أبي عثمان النهدي استتاب رجلا كفر بعد إسلامه شهرا ؟ فأبى ، فقتله . عليا
وقد روي هذا عن ، وعن بعض أهل مذهبه . مالك
وأما من قال : يستتاب شهرين : فكما روينا من طريق عن عبد الرزاق عن معمر أيوب عن عن حميد بن هلال قال { أبي بردة أبي موسى الأشعري من معاذ بن جبل اليمن وإذا برجل عنده ، فقال : ما هذا ؟ فقال رجل كان يهوديا فأسلم ، ثم تهود ونحن نريده على الإسلام ، منذ - أحسبه قال - شهرين ، قال : والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه ، فضربت عنقه ، ثم قال معاذ : قضاء الله ورسوله . معاذ } : قدم على
حدثنا عبد الوهاب - هو ابن عطاء الخفاف - أنا سعيد عن أيوب عن { حميد بن هلال قدم على معاذ بن جبل أبي موسى اليمن فوجد عنده رجلا قد تهود وعرض عليه الإسلام شهرين ، فقال أبو موسى : والله لا أجلس حتى أقتله ; قضاء الله ورسوله . معاذ } أن
وأما من قال : يستتاب أبدا دون قتل : فلما أنا عبد الله بن ربيع أنا عبد الله بن محمد بن عثمان أنا أنا علي بن عبد العزيز الحجاج بن المنهال أنا أنا حماد بن سلمة - عن داود - هو ابن أبي هند الشعبي عن [ ص: 113 ] : أن أنس بن مالك قتل أبا موسى الأشعري جحينة الكذاب ، وأصحابه ، قال : فقدمت على أنس فقال : ما فعل عمر بن الخطاب جحينة ، وأصحابه ؟ قال : فتغافلت عنه - ثلاث مرات ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، وهل كان سبيل إلا القتل ؟ فقال : لو أتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام ، فإن تابوا وإلا استودعتهم السجن . عمر
وروينا من طريق عن عبد الرزاق قال : أخبرني معمر محمد بن عبد الرحمن بن عبد القاري عن أبيه ، قال : قدم مجزأة بن ثور ، أو على شقيق بن ثور يبشره بفتح عمر تستر فقال له : هل كانت مغربة يخبرنا بها ؟ قال : لا إلا أن رجلا من عمر العرب ارتد فضربنا عنقه ، قال : ويحكم ، فهلا طينتم عليه بابا ، وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا ، وسقيتموه كوزا من ماء ثلاثة أيام ، ثم عرضتم عليه الإسلام في الثالثة ، فلعله أن يرجع ، اللهم لم أحضر ، ولم آمر ، ولم أعلم . عمر
وأما من قال : أربعين يوما : فلما روينا من طريق أنا ابن وضاح سحنون أنا عن ابن وهب مسلمة بن علي عن رجل عن أن رجلا يهوديا أسلم ثم ارتد عن الإسلام ، فحبسه قتادة أربعين يوما يدعوه إلى الإسلام ، فأتاه أبو موسى الأشعري فرآه عنده فقال : لا أنزل حتى تضرب عنقه ؟ فلم ينزل حتى ضربت عنقه . معاذ بن جبل
وأما من ارتد من كفر إلى كفر ، فإن ، أبا حنيفة قالا جميعا : يقر على ذلك ولا يعترض عليه . ومالكا
وقال ، الشافعي ، وأصحابهما : لا يقر على ذلك . وأبو سليمان
ثم اختلف قول : فمرة قال : إن رجع إلى الكفر الذي تذمم عليه ، وإلا قتل ، وإلا أن يسلم - ومرة قال : لا يقبل منه الرجوع إلى الدين الذي خرج عنه ، لا بد له من الإسلام أو السيف - وبهذا يقول أصحابنا ؟ قال الشافعي رحمه الله : فنظرنا في قول من قال : إنه يستتاب مرة ، فإن تاب وإلا قتل ؟ فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى { أبو محمد ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } .
وقال تعالى { وافعلوا الخير } . [ ص: 114 ]
وقال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } الآية .
فكانت الاستتابة فعل خير ودعاء إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة ، ودعاء إلى الخير ، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، فكان ذلك واجبا ، وكان فاعله مصلحا .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { لعلي } . لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم
قالوا : فهذا لا ينبغي أن يزهد فيه .
قالوا : وقد فعله ، علي ، وعثمان - وروي عن وابن مسعود ، أبي بكر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم ؟ قال وعمر رحمه الله : لا نعلم لهم حجة غير هذا أصلا ، فعارضهم من قال : لا أستتيبه بأن قالوا : بأن الدعاء إلى سبيل الله تعالى لا يخلو من أن يجب مرة ، أو عددا محدودا ، أو أكثر من مرة ، أو أبدا ما امتد العمر بلا نهاية ، ولا سبيل إلى قسم رابع . أبو محمد
قال : فإن قلتم : إنه يجب أبدا ما امتد به العمر بلا نهاية : تركتم قولكم وصرتم إلى قول من رأى أن يستتاب المرتد أبدا ، ولا يقتل - وهذا ليس هو قولكم ، ولو كان لكنا قد أبطلناه آنفا ، ولو كان هذا أيضا لبطل الجهاد جملة ، لأن الدعاء كان يلزم أبدا مكررا بلا نهاية ، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا ، وليس دعاء المرتد - وهو أحد الكفار - بأوجب من دعاء غيره من أهل الكفر الحربيين - فسقط هذا القول - وبالله تعالى التوفيق .
وإن قلتم : إنه يجب عددا محددا أكثر من مرة : كنتم قائلين بلا دليل ، وهذا باطل ، لقول الله تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
وليس قول من قال : يستتاب مرتين بأولى ممن قال : ثلاثة ، ولا ممن قال : أربعا ، أو خمسا ، أو أكثر من ذلك . [ ص: 115 ]
وكل هذه الأقوال بلا برهان ، فسقط هذا القول بلا شك .
فلم يبق إلا قول من قال : يدعى مرة ؟ فيقال له : إن من أسلم ثم ارتد : قد تقدم دعاؤه إلى الإسلام حين أسلم بلا شك ، إن كان دخيلا في الإسلام ، أو حين بلغ ، وعلم شرائع الدين ، هذا ما لا شك فيه .
وقد قلنا : إن التكرار لا يلزم ، فالواجب إقامة الحد عليه ، إذ قد اتفقنا - نحن وأنتم - على وجوب قتله إن لم يراجع الإسلام ، فالاشتغال عن ذلك وتأخيره باستتابة ، ودعاء : لا يلزمان ترك الإقامة عليه - وهذا لا يجوز ؟ قالوا : ونحن لم نمنع من دعائه إلى الإسلام في خلال ذلك دون تأخير لإقامة الحق عليه ، ولا تضييع له ، وإنما كلامنا : هل يجب دعاؤه واستتابته فرضا أم لا ؟ فهاهنا اختلفنا ، فأوجبتموه بلا برهان ، ولم نوجب نحن ولا منعنا ؟ فإن قلتم : ندعوه مرة بعد الدعاء الأول السالف : لم تكونوا بأولى ممن قال : بل ادعوه مرة ثانية أيضا بعد هذه المرة ؟ أو ممن قال : بل الثالثة بعد الثانية .
أو ممن قال : بل الرابعة بعد الثالثة - وهكذا أبدا .
فبطل بلا شك ما أوجبتم فرضا من استتابته مرة واحدة فأكثر .
قال : وأما قولكم : فإنه قد روي عن ، أبي بكر ، وصح عن وعمر ، عثمان ، وعلي ، بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلا حجة لكم في هذا : أما الرواية عن وابن مسعود - فلا تصح ، لأن الطريق في كلتي الروايتين عن أبي بكر وهو ساقط . ابن لهيعة
وأما الحكم في أهل الردة : فهو أمر مشهور ، نقل الكواف لا يقدر أحد على إنكاره ، إلا أنه لا حجة لكم فيه ، لأن أهل الردة كانوا قسمين : قسما لم يؤمن قط كأصحاب مسيلمة ، وسجاح ، فهؤلاء حربيون لم يسلموا قط ، لا يختلف أحد في أنهم تقبل توبتهم وإسلامهم . [ ص: 116 ]
والقسم الثاني : قوم أسلموا ولم يكفروا بعد إسلامهم ، لكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى رضي الله عنه فعلى هذا قوتلوا . أبي بكر
ولا يختلف الحنفيون ، ولا الشافعيون : في أن هؤلاء ليس لهم حكم المرتد أصلا ، وهم قد خالفوا فعل فيهم ، ولا يسميهم أهل ردة . أبي بكر
ودليل ما قلنا : شعر الحطيئة المشهور الذي يقول فيه :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا لهفنا ما بال دين أبي بكر أيورثها بكرا إذ مات بعده
فتلك لعمر الله قاصمة الظهر وإن التي طالبتم فمنعتم
لكالتمر أو أحلى لدي من التمر فدا لبني بكر بن ذودان رحلي ونا
قتي عشية يحدي بالرماح أبو بكر