( 8221 ) مسألة : قال رحمه الله تعالى : ( ولا يولى قاض حتى يكون بالغا ، عاقلا ، مسلما ، حرا ، عدلا ، عالما ، فقيها ، ورعا ) وجملته أنه أبو القاسم ; أحدها ، الكمال ، وهو نوعان ; كمال الأحكام ، وكمال الخلقة ، أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء ; أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا . يشترط في القاضي ثلاثة شروط
وحكي عن أنه لا تشترط الذكورية ; لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية ، فيجوز أن تكون قاضية . وقال ابن جرير : يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود ; لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه . ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أبو حنيفة } . ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال ، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة ، والمرأة ناقصة العقل ، قليلة الرأي ، ليست أهلا للحضور في محافل الرجال ، ولا تقبل شهادتها ، ولو كان معها ألف امرأة مثلها ، ما لم يكن معهن رجل ، وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى { ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ولا تصلح للإمامة العظمى ، ولا لتولية البلدان ; ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ، ولا من بعدهم ، امرأة قضاء ولا ولاية بلد ، فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا .
وأما كمال الخلقة ، فأن يكون متكلما سميعا بصيرا ; لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ، ولا يفهم جميع الناس إشارته ، والأصم لا يسمع قول الخصمين ، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه ، والمقر من المقر له ، والشاهد من [ ص: 93 ] المشهود له .
وقال بعض أصحاب : يجوز أن يكون أعمى ; لأن الشافعي شعيبا كان أعمى . ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان . ولنا ، أن هذه الحواس تؤثر في الشهادة ، فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع ; وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء ، والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها ، وربما أحاط بحقيقة علمها ، والقاضي ولايته عامة ، ويحكم في قضايا الناس عامة ، فإذا لم يقبل منه الشهادة ، فالقضاء أولى ، وما ذكروه عن شعيب فلا نسلم فيه ، فإنه لم يثبت أنه كان أعمى ، ولو ثبت فيه ذلك ، فلا يلزم هاهنا ، فإن شعيبا عليه السلام ، كان من آمن معه من الناس قليلا ، وربما لا يحتاجون إلى حكم بينهم لقلتهم وتناصفهم ، فلا يكون حجة في مسألتنا .
الشرط الثاني ، العدالة ، فلا يجوز تولية فاسق ، ولا من فيه نقص يمنع الشهادة ، وسنذكر ذلك في الشهادة ، إن شاء الله - تعالى .
وحكي عن الأصم ، أنه قال : يجوز أن يكون القاضي فاسقا ; لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } . ولنا ، قول الله تعالى : { سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها ، فصلوها لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } . فأمر بالتبين عند قول الفاسق ، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ، ويجب التبين عند حكمه ; ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا ، فلئلا يكون قاضيا أولى .
فأما الخبر فأخبر بوقوع كونهم أمراء ، لا بمشروعيته ، والنزاع في صحة توليته ، لا في وجودها .
الشرط الثالث ، أن يكون من أهل الاجتهاد . وبهذا قال مالك ، وبعض الحنفية . وقال بعضهم : يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد ; لأن الغرض منه فصل الخصائم ، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز ، كما يحكم بقول المقومين . ولنا ، قول الله تعالى : { والشافعي وأن احكم بينهم بما أنزل الله } . ولم يقل بالتقليد ، وقال : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } . وقال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .
وروى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بريدة } . رواه القضاة ثلاثة ; اثنان في النار وواحد في الجنة ، رجل علم الحق فقضى به ، فهو في الجنة ، ورجل ، قضى للناس على جهل ، فهو في النار ، ورجل جار في الحكم ، فهو في النار . والعامي يقضي على الجهل ، ولأن الحكم آكد من الفتيا ; لأنه فتيا وإلزام ، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا ، فالحكم أولى . ابن ماجه
فإن قيل : فالمفتي يجوز أن يخبر بما سمع . قلنا : نعم . إلا أنه لا يكون مفتيا في تلك الحال ، وإنما هو مخبر ، فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبره لا بفتياه ، ويخالف قول المقومين ; لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه ، بخلاف الحكم .
[ ص: 94 ] إذا ثبت هذا ، فمن معرفة ستة أشياء ; الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والاختلاف ، والقياس ، ولسان شرط الاجتهاد العرب . أما الكتاب ، فيحتاج أن يعرف منه عشرة أشياء ; الخاص ، والعام ، والمطلق ، والمقيد ، والمحكم ، والمتشابه ، والمجمل ، والمفسر ، والناسخ ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام ، وذلك نحو خمسمائة ، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن .
فأما السنة ، فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار ، من ذكر الجنة والنار والرقائق ، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ، ويزيد معرفة التواتر ، والآحاد ، والمرسل ، والمتصل ، والمسند ، والمنقطع ، والصحيح ، والضعيف ، ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه ، وما اختلف فيه ، ومعرفة القياس ، وشروطه ، وأنواعه ، وكيفية استنباطه الأحكام ، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكر ; ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة ، وقد نص على اشتراط ذلك للفتيا ، والحكم في معناه . أحمد
فإن قيل : هذه شروط لا تجتمع ، فكيف يجوز اشتراطها ؟ . قلنا : ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها ، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا ، فقد كان أبو بكر الصديق ، خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه ، وخير الناس بعده ، في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة ، حتى يسألا الناس فيخبرا { وعمر بن الخطاب أبو بكر عن ميراث الجدة ، فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس . ثم قام فقال : أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة ؟ فقام ، فقال : أشهد أن رسول الله أعطاها السدس . وسأل المغيرة بن شعبة عن إملاص المرأة ، فأخبره عمر أن النبي قضى فيه بغرة المغيرة بن شعبة } . ، فسئل
ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم ، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد ، فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها .
وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل ، بل من عرف أدلة مسألة ، وما يتعلق بها ، فهو مجتهد فيها ، وإن جهل غيرها ، كمن يعرف الفرائض وأصولها ، ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ، ولذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل . وقيل : من يجيب في كل مسألة فهو مجنون ، وإذا ترك العالم : لا أدري . أصيبت مقاتله .
وحكي أن سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها : لا أدري . ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا . وإنما المعتبر أصول هذه الأمور ، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله ، فمن عرف ذلك ، ورزق فهمه ، كان مجتهدا ، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه . والله أعلم . مالكا