المسألة الثالثة : اعلم أن الآية دالة على بشيء من الخيرات والمنافع ، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا ، وأن يكون علما . ذم البخل
فالقول الأول : إن هذا الوعيد ورد على البخل بالمال ، والمعنى : لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم ، بل هو شر لهم ، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم ، وهو المراد من قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) .
والقول الثاني : أن المراد من هذا البخل : ، وذلك لأن البخل بالعلم اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ، فكان ذلك الكتمان بخلا ، يقال : فلان ، ولا شك أن يبخل بعلمه ، قال الله تعالى : ( العلم فضل من الله تعالى وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) [ النساء : 113 ] ثم إنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والإنجيل ، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك بخلا .
واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أنه تعالى قال : ( سيطوقون ما بخلوا به ) ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى .
الثاني : أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في ، فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ، ولو حملناها على أن بذل المال في الجهاد اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم ، إلا على سبيل التكلف ، فكان الأول أولى .
المسألة الرابعة : أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب ، وأن منع التطوع لا يكون بخلا ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل ، والوعيد لا يليق إلا على الواجب .
وثانيها : أنه تعالى ذم البخل وعابه ، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله ، وأن يعاب به .
وثالثها : وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل ، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه ، فيكون لا محالة تاركا التفضل ، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا .
ورابعها : قال عليه الصلاة والسلام : " " ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف . وأي داء أدوأ من البخل
وخامسها : أنه لو كان تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكل .
وسادسها : أنه تعالى قال : ( ومما رزقناهم ينفقون ) [ البقرة : 3 ] وكلمة " من " للتبعيض ، فكان المراد من هذه الآية : الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ، ثم إنه تعالى قال في صفتهم : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة : 5 ] [ ص: 93 ] فوصفهم بالهدى والفلاح ، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك . فثبت بهذه الآية أن ، إلا أن البخل عبارة عن ترك الواجب أقسام كثيرة ، منها إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم ، فههنا يجب عليهم إنفاق الأموال على من يدفعه عنهم ، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه ، فكل هذه الإنفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل ، والله أعلم . الإنفاق الواجب
ثم قال تعالى : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذا الوعيد وجوه :
الأول : أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم . قيل إنه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالأطواق تلتوي في أعناقهم ، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم ، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها ، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى جهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم ، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم . ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ، ونظيره قوله تعالى : ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) [ التوبة : 35 ] وعن رضي الله عنهما : تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول : أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي . ابن عباس
القول الثاني : في تفسير قوله : ( سيطوقون ) قال : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ، ونظيره ما روي عن مجاهد أنه كان يقرأ " وعلى الذين يطوقونه فدية " قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه ، فكذا قوله : ( ابن عباس سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الإتيان به ، فيكون ذلك توبيخا على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا .
والقول الثالث : أن قوله : ( سيطوقون ما بخلوا به ) أي سيلزمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا ، يقال منه : فلان كالطوق في رقبة فلان ، والعرب يعبرون عن تأكيد إلزام الشيء بتصييره في العنق ، ومنه يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك ; قال تعالى : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) [ الإسراء : 13 ] .
القول الرابع : إذا فسرنا هذا البخل كان معنى " سيطوقون " أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار ، قال عليه الصلاة والسلام : " بالبخل بالعلم " والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق . من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير بعيد ، وذلك لأن اليهود والنصارى [ ص: 94 ] موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به ; قال تعالى في صفتهم : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) [ النساء : 53 ] وقال أيضا فيهم : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) [ النساء : 37 ] وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] وذلك من أقوال اليهود ، ولا يبعد أيضا أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم ، وفي البخل بالمال ، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا .