[ ص: 141 ] فصل
وأما الحج : فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفته وأحكامه .
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما : ذي الحليفة " فقال : " من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل " ، فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حج حجة الوداع " أحرم هو والمسلمون من الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ، إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله فراجعه بعضهم في ذلك فغضب وقال : " انظروا ما أمرتكم به فافعلوه " ، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي ، فلم يحل من إحرامه . ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال : " " وقال أيضا : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، ولولا أن معي الهدي لأحللت " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي ، منهم : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب . فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى وطلحة بن عبيد الله منى فبات بهم [ ص: 142 ] تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ، ونمرة خارجة عن عرفة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة ، فنصبت له القبة بنمرة ، وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده ، وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك . فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار والمسلمون إلى المصلى ببطن عرنة . حيث قد بني المسجد ، وليس هو من الحرم ولا من عرفة ، وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك ، بينه وبين الموقف نحو ميل ، فخطب بهم خطبة الحج على راحلته ، وكان يوم الجمعة . ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ، ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة ، واسمه "إلال" على وزن هلال ، وهو الذي تسميه العامة عرفة . فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس ، فدفع بهم إلى مزدلفة ، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة ، وبات بها حتى طلع الفجر ، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ، ثم وقف عند " قزح " وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام ، وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن ، فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا ، ثم دفع بهم حتى قدم منى ، فاستفتحها برمي جمرة العقبة ، ثم رجع إلى منزله بمنى فحلق رأسه ، ثم نحر ثلاثا وستين بدنة من الهدي الذي ساقه ، وأمر عليا فنحر الباقي ، وكان مائة بدنة ، ثم أفاض إلى مكة ، فطاف طواف الإفاضة ، وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من [ ص: 143 ] مزدلفة قبل طلوع الفجر ، فرموا الجمرة بليل ، ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث ، يصلي بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة ، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس ، يفتتح بالجمرة الأولى - وهي الصغرى ، وهي الدنيا إلى منى ، والقصوى من مكة - ويختتم بجمرة العقبة ، ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية ، وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو ، فإن المواقف ثلاث : عرفة ، ومزدلفة ، ومنى . ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون ، فنزل بالمحصب عند خيف بني كنانة ، فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء ، وبعث تلك الليلة مع أخيها عائشة عبد الرحمن ؛ لتعتمر من التنعيم ، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة . وقد بنى بعده هناك مسجدا سماه الناس مسجد عائشة ؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه أحد قط إلا ؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت . وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين عائشة الصفا والمروة . وقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اقض ما يقضي الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ، ولم يقم بعد أيام التشريق ، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرام إلى الحل إلا وحدها عائشة .
[ ص: 144 ] فأخذ فقهاء الحديث : كأحمد وغيره بسنته في ذلك كله . وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعد ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة .