ذكر ما روي من حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها
روى في " صحيحه " من حديث البخاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة ( أفضل الصدقة ما ترك غنى ) ، وفي لفظ : ( ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ) ، تقول المرأة : إما أن تطعمني ، وإما أن تطلقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني ، ويقول الولد : أطعمني ، إلى من تدعني ؟ قالوا : يا ، سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : لا . هذا من كيس أبا هريرة أبي هريرة .
وذكر هذا الحديث في كتابه وقال فيه : النسائي " وابدأ بمن تعول " ، فقيل : من أعول يا رسول الله ؟ قال : ( امرأتك تقول : أطعمني وإلا فارقني ، خادمك يقول : أطعمني واستعملني ، ولدك يقول : أطعمني ، إلى من تتركني ؟ ) . وهذا في جميع نسخ كتاب ، هكذا ، وهو عنده من حديث النسائي سعيد بن أيوب عن عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم أبي صالح عن - رضي الله عنه - ، أبي هريرة وسعيد ومحمد ثقتان .
وقال : حدثنا الدارقطني حدثنا أبو بكر الشافعي محمد بن بشر بن مطر ، حدثنا ، حدثنا شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عاصم عن أبي صالح ، عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أبي هريرة المرأة تقول لزوجها : أطعمني أو طلقني ) الحديث .
[ ص: 457 ] وقال : حدثنا الدارقطني ، عثمان بن أحمد بن السماك وعبد الباقي بن قانع وإسماعيل بن علي قالوا : أخبرنا ، حدثنا أحمد بن علي الخزاز إسحاق بن إبراهيم الباوردي ، حدثنا ، حدثنا إسحاق بن منصور عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد ، في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، قال : يفرق بينهما . وبهذا الإسناد إلى سعيد بن المسيب عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة أبي صالح عن - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . أبي هريرة
وقال في " سننه " : حدثنا سعيد بن منصور سفيان عن أبي الزناد قال : سألت عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، أيفرق بينهما ؟ قال : نعم . قلت : سنة ؟ قال : سنة . وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فغايته أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب . سعيد بن المسيب
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال .
أحدها : أنه يجبر على أن ينفق أو يطلق ، روى سفيان عن عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : إذا لم يجد الرجل ما ينفق على امرأته ، أجبر على طلاقها . ابن المسيب
الثاني : إنما يطلقها عليه الحاكم ، وهذا قول مالك ؛ لكنه قال : يؤجل في عدم النفقة شهرا ونحوه ، فإن انقضى الأجل وهي حائض أخر حتى تطهر ، وفي الصداق عامين ثم يطلقها عليه الحاكم طلقة رجعية ، فإن أيسر في العدة فله ارتجاعها ، قولان . أحدهما : أن الزوجة تخير إن شاءت أقامت معه ، وتبقى نفقة المعسر دينا لها في ذمته . قال أصحابه : هذا إذا أمكنته من نفسها ، وإن لم تمكنه سقطت نفقتها ، وإن شاءت فسخت النكاح . وللشافعي
[ ص: 458 ] والقول الثاني : ليس لها أن تفسخ ، لكن يرفع الزوج يده عنها لتكتسب ، والمذهب أنها تملك الفسخ .
قالوا : وهل هو طلاق أو فسخ ؟ فيه وجهان .
أحدهما : أنه طلاق ، فلا بد من الرفع إلى القاضي حتى يلزمه أن يطلقها أو ينفق ، فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقة رجعية ، فإن راجعها طلق عليه ثانية ، فإن راجعها طلق عليه ثالثة .
والثاني : أنه فسخ ، فلا بد من الرفع إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثم تفسخ هي ، وإن اختارت المقام ثم أرادت الفسخ ملكته ؛ لأن النفقة يتجدد وجوبها كل يوم ، وهل تملك الفسخ في الحال أو لا تملكه إلا بعد مضي ثلاثة أيام ؟ وفيه قولان . الصحيح عندهم : الثاني . قالوا : فلو وجد في اليوم الثالث نفقتها وتعذر عليه نفقة اليوم الرابع ، فهل يجب استئناف هذا الإمهال ؟ فيه وجهان . وقال : يؤجل سنة ثم يفسخ قياسا على العنين . وقال حماد بن أبي سليمان : يضرب له شهر أو شهران . وقال عمر بن عبد العزيز مالك : الشهر ونحوه . وعن أحمد روايتان . إحداهما ، وهي ظاهر مذهبه : أن المرأة تخير بين المقام معه وبين الفسخ ، فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم فيخير الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يجبره على الطلاق أو يأذن لها في الفسخ ، فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق ، ولا رجعة له ، وإن أيسر في العدة . وإن أجبره على الطلاق فطلق رجعيا فله رجعتها ، فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخ فسخ عليه ثانيا وثالثا ، وإن رضيت المقام معه مع عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذلك .
قال القاضي : وظاهر كلام أحمد : أنه ليس لها الفسخ في الموضعين ويبطل خيارها ، وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ ، كما لو . وقالت بعد العقد : قد [ ص: 459 ] رضيت به عنينا . وهذا الذي قاله القاضي : هو مقتضى المذهب والحجة . تزوجت عنينا عالمة بعنته
والذين قالوا : لها الفسخ - وإن رضيت بالمقام - قالوا : حقها متجدد كل يوم فيتجدد لها الفسخ بتجدد حقها ، قالوا : ولأن رضاها يتضمن إسقاط حقها فيما لم يجب فيه من الزمان ، فلم يسقط كإسقاط الشفعة قبل البيع . قالوا : وكذلك لو لم تسقط ، وكذلك لو أسقطتها قبل العقد جملة ورضيت بلا نفقة ، وكذلك لو أسقطت المهر قبله لم يسقط ، وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به . والذين قالوا بالسقوط أجابوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدد ، ومع هذا إذا أسقطت حقها من الفسخ بالعنة سقط ولم تملك الرجوع فيه . أسقطت النفقة المستقبلة
قالوا : وقياسكم ذلك على إسقاط نفقتها قياس على أصل غير متفق عليه ولا ثابت بالدليل ، بل الدليل يدل على سقوط الشفعة بإسقاطها قبل البيع كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق بالبيع ) وهذا صريح في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يملك طلبها بعده ، وحينئذ فيجعل هذا أصلا لسقوط حقها من النفقة بالإسقاط ، ونقول : خيار لدفع الضرر فسقط بإسقاطه قبل ثبوته كالشفعة ثم ينتقض هذا فإن المستأجر إذا دخل عليه أو علم به ثم اختار ترك الفسخ لم يكن له الفسخ بعد هذا ، وتجدد حقه بالانتفاع كل وقت كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ولا فرق ، وأما قوله : لو أسقطها قبل النكاح أو أسقط المهر قبله لم يسقط ، فليس إسقاط الحق قبل انعقاد سببه بالكلية كإسقاطه بعد انعقاد سببه ، هذا إن كان في المسألة إجماع ، وإن كان فيها خلاف فلا فرق بين الإسقاطين وسوينا بين الحكمين ، وإن كان بينهما فرق امتنع القياس . بالعيب في العين المؤجرة
[ ص: 460 ] وعنه رواية أخرى : ليس لها الفسخ ، وهذا قول وصاحبيه . وعلى هذا لا يلزمها تمكينه من الاستمتاع ؛ لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه ، كما لو أبي حنيفة لم يجب تسليمه إليه ، وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها ؛ لأن في حبسها بغير نفقة إضرارا بها . أعسر المشتري بثمن المبيع
فإن قيل فلو كانت موسرة ، فهلا يملك حبسها ؟ قيل قد قالوا أيضا : لا يملك حبسها ؛ لأنه إنما يملكه إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لا بد لها منه من النفقة والكسوة ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها ، فإذا انتفى هذا وهذا لم يملك حبسها ، وهذا قول جماعة من السلف والخلف .
ذكر عبد الرزاق عن قال : سألت ابن جريج عطاء عمن لا يجد ما يصلح امرأته من النفقة ؟ قال : ليس لها إلا ما وجدت ، ليس لها أن يطلقها . وروى عن جماعة عن حماد بن سلمة أنه قال في الحسن البصري : قال : تواسيه وتتقي الله وتصبر ، وينفق عليها ما استطاع . وذكر الرجل يعجز عن نفقة امرأته عبد الرزاق عن معمر قال : سألت عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، أيفرق بينهما ؟ قال : تستأني به ولا يفرق بينهما ، وتلا : ( الزهري لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ) [ الطلاق : 7 ] . قال معمر : وبلغني عن مثل قول عمر بن عبد العزيز سواء . وذكر الزهري عبد الرزاق عن في المرأة يعسر زوجها بنفقتها : قال : هي امرأة ابتليت فلتصبر ولا تأخذ بقول من فرق بينهما . سفيان الثوري
قلت : عن ثلاث روايات ، هذه إحداها . والثانية : روى عمر بن عبد العزيز ابن وهب عن عن أبيه قال : شهدت عبد الرحمن بن أبي الزناد يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه لا ينفق عليها : اضربوا له أجلا شهرا أو شهرين فإن لم ينفق عليها إلى ذلك الأجل فرقوا بينه وبينها . عمر بن عبد العزيز
[ ص: 461 ] والثالثة : ذكر ابن وهب عن عن ابن لهيعة محمد بن عبد الرحمن أن رجلا شكى إلى بأنه أنكح ابنته رجلا لا ينفق عليها ، فأرسل إلى الزوج ، فأتى ، فقال : أنكحني وهو يعلم أنه ليس لي شيء ، فقال عمر بن عبد العزيز عمر : أنكحته وأنت تعرفه ؟ قال : نعم . قال : فما الذي أصنع ؟ اذهب بأهلك .
والقول بعدم التفريق مذهب أهل الظاهر كلهم ، وقد تناظر فيها مالك وغيره فقال مالك : أدركت الناس يقولون : إذا لم ينفق الرجل على امرأته فرق بينهما . فقيل له ، قد كانت الصحابة - رضي الله عنهم - يعسرون ويحتاجون ، فقال مالك : ليس الناس اليوم كذلك ؛ إنما تزوجته رجاء .
ومعنى كلامه : أن نساء الصحابة - رضي الله عنهم - كن يردن الدار الآخرة وما عند الله ، ولم يكن مرادهن الدنيا ، فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن ؛ لأن أزواجهن كانوا كذلك . وأما النساء اليوم فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم ، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا ، فصار هذا المعروف كالمشروط في العقد ، وكان عرف الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد ، والشرط العرفي في أصل مذهبه كاللفظي ، وإنما أنكر على مالك كلامه هذا من لم يفهمه ويفهم غوره .
وفي المسألة مذهب آخر وهو : أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه ، وهذا مذهب حكاه الناس عن وصاحب " المغني " وغيرهما عن ابن حزم عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة . ويالله العجب ! لأي شيء يسجن ويجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، وما أظن من شم رائحة العلم يقول هذا .
وفي المسألة مذهب آخر وهو : أن المرأة تكلف الإنفاق عليه إذا كان عاجزا عن نفقة نفسه ، وهذا مذهب ، وهو خير بلا شك من مذهب أبي محمد ابن حزم العنبري . قال في " المحلى " : فإن [ ص: 462 ] كلفت النفقة عليه ، ولا ترجع بشيء من ذلك إن أيسر ، برهان ذلك قول الله عز وجل ( عجز الزوج عن نفقة نفسه ، وامرأته غنية وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك ) [ البقرة : 233 ] فالزوجة وارثة فعليها النفقة بنص القرآن .
ويا عجبا لأبي محمد ! لو تأمل سياق الآية لتبين له منها خلاف ما فهمه ؛ فإن الله سبحانه قال : ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) وهذا ضمير الزوجات بلا شك ، ثم قال : ( وعلى الوارث مثل ذلك ) فجعل سبحانه على وارث المولود له ، أو وارث الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على الموروث ، فأين في الآية نفقة على غير الزوجات ؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه .
واحتج من لم ير الفسخ بالإعسار بقوله تعالى : ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) [ الطلاق : 7 ] قالوا : وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولم يأثم بتركه ، فلا يكون سببا للتفريق بينه وبين حبه وسكنه وتعذيبه بذلك . قالوا : وقد روى في " صحيحه " من حديث مسلم أبي الزبير عن جابر ( دخل أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجداه جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى يجأ عنقها ، وقام عائشة عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا ما ليس عنده ، ثم اعتزلهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا ) وذكر الحديث .
[ ص: 463 ] قالوا : فهذا أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يضربان ابنتيهما بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سألاه نفقة لا يجدها . ومن المحال أن يضربا طالبتين للحق ويقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، فدل على أنه لا حق لهما فيما طلبتاه من ، وإذا كان طلبهما لها باطلا فكيف تمكن المرأة من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبه ولا يحل لها ، وقد أمر الله سبحانه صاحب الدين أن ينظر المعسر إلى الميسرة ، وغاية النفقة أن تكون دينا ، والمرأة مأمورة بإنظار الزوج إلى الميسرة بنص القرآن هذا إن قيل : تثبت في ذمة الزوج ، وإن قيل : تسقط بمضي الزمان فالفسخ أبعد وأبعد . النفقة في حال الإعسار
قالوا : فالله تعالى أوجب على صاحب الحق ، وندبه إلى الصدقة بترك حقه ، وما عدا هذين الأمرين فجور لم يبحه له ، ونحن نقول لهذه المرأة كما قال الله تعالى لها سواء بسواء : إما أن تنظريه إلى الميسرة وإما أن تصدقي ، ولا حق لك فيما عدا هذين الأمرين . الصبر على المعسر
قالوا : ولم يزل في الصحابة المعسر والموسر ، وكان معسروهم أضعاف أضعاف موسريهم ، فما مكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط امرأة واحدة من الفسخ بإعسار زوجها ، ولا أعلمها أن الفسخ حق لها فإن شاءت صبرت وإن شاءت فسخت ، وهو يشرع الأحكام عن الله تعالى بأمره ، فهب أن الأزواج تركن حقهن ، أفما كان فيهن امرأة واحدة تطالب بحقها ؟ وهؤلاء نساؤه - صلى الله عليه وسلم - خير نساء العالمين يطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه ، وحلف ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن ، فلو كان من المستقر في شرعه أن المرأة تملك الفسخ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك ولو من امرأة واحدة ، وقد رفع إليه ما ضرورته دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح ، وقالت له امرأة رفاعة : إني نكحت بعد رفاعة عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب . تريد أن يفرق بينه وبينها . ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في [ ص: 464 ] غاية الندرة بالنسبة إلى الإعسار ، فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرق بينه وبينها بالإعسار .
قالوا : وقد جعل الله الفقر والغنى مطيتين للعباد ، فيفتقر الرجل الوقت ويستغني الوقت ، فلو كان كل من افتقر فسخت عليه امرأته لعم البلاء وتفاقم الشر وفسخت أنكحة أكثر العالم وكان الفراق بيد أكثر النساء ، فمن الذي لم تصبه عسرة ويعوز النفقة أحيانا .
قالوا : ولو لم يمكن الزوج من فسخ النكاح ، بل يوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء ، فكيف يمكنونها من الفسخ بإعساره عن النفقة التي غايتها أن تكون عوضا عن الاستمتاع ؟ تعذر من المرأة الاستمتاع بمرض متطاول وأعسرت بالجماع
قالوا : وأما حديث فقد صرح فيه بأن قوله : امرأتك تقول : أنفق علي وإلا طلقني ، من كيسه ، لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا في " الصحيح " عنه . ورواه عنه أبي هريرة وقال : ثم يقول سعيد بن أبي سعيد إذا حدث بهذا الحديث : امرأتك تقول ، فذكر الزيادة . أبو هريرة
وأما حديث عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة أبي صالح عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله ، فأشار إلى حديث أبي هريرة عن يحيى بن سعيد في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته . قال : يفرق بينهما ، فحديث منكر لا يحتمل أن يكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلا ، وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - موقوفا ، والظاهر : أنه روي بالمعنى ، وأراد قول أبي هريرة - رضي الله عنه - امرأتك تقول : أطعمني أو طلقني ، وأما أن يكون عند أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه سئل عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته فقال : يفرق بينهما ، فوالله ما قال هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سمعه أبي هريرة ولا حدث به ، كيف أبو هريرة لا يستجيز أن يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( امرأتك تقول : أطعمني وإلا طلقني ) [ ص: 465 ] ويقول : هذا من كيس وأبو هريرة لئلا يتوهم نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . أبي هريرة
والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة : أن الرجل إذا ، أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم أن لها الفسخ ، وإن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرا ثم أصابته جائحة اجتاحت ماله فلا فسخ لها في ذلك ، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن ، وبالله التوفيق . غر المرأة بأنه ذو مال فتزوجته على ذلك فظهر معدما لا شيء له
وقد قال جمهور الفقهاء : لا يثبت لها ، وهذا قول الفسخ بالإعسار بالصداق وأصحابه وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة أحمد - رحمه الله - اختاره عامة أصحابه وهو قول كثير من أصحاب . وفصل الشيخ الشافعي أبو إسحاق فقالا : إن كان قبل الدخول ثبت به الفسخ ، وبعده لا يثبت ، وهو أحد الوجوه من مذهب وأبو علي بن أبي هريرة أحمد هذا مع أنه عوض محض ، وهو أحق أن يوفى من ثمن المبيع كما دل عليه النص ، كل ما تقرر في عدم الفسخ به فمثله في النفقة وأولى .
فإن قيل : في الإعسار بالنفقة من الضرر اللاحق بالزوجة ما ليس في الإعسار بالصداق ، فإن البنية تقوم بدونه بخلاف النفقة . قيل : والبنية قد تقوم بدون نفقته بأن تنفق من مالها أو ينفق عليها ذو قرابتها أو تأكل من غزلها ، وبالجملة فتعيش بما تعيش به زمن العدة ، وتقدر زمن عسرة الزوج كله عدة .
ثم الذين يجوزون لها الفسخ يقولون : لها أن تفسخ ولو كان معها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة إذا عجز الزوج عن نفقتها ، وبإزاء هذا القول قول منجنيق الغرب : إنه يجب عليها أن تنفق عليه في هذه الحال ، فتعطيه مالها وتمكنه من نفسها ، ومن العجب قول أبي محمد ابن حزم العنبري بأنه يحبس .
وإذا تأملت أصول الشريعة وقواعدها ، وما اشتملت عليه من المصالح ودرء [ ص: 466 ] المفاسد ، ودفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ، تبين لك القول الراجح من هذه الأقوال ، وبالله التوفيق .