فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة .
أربعة : الفراش ، والاستلحاق ، والبينة ، والقافة ، فالثلاثة الأول متفق عليها ، واتفق المسلمون على أن النكاح يثبت به الفراش ، واختلفوا في التسري فجعله جمهور الأمة موجبا للفراش ، واحتجوا بصريح حديث وجهات ثبوت النسب الصحيح ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالولد عائشة لزمعة ، وصرح بأنه صاحب الفراش ، وجعل ذلك علة للحكم بالولد له ، فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة ، فلا يجوز إخلاء الحديث منه وحمله على الحرة التي لم تذكر البتة ، وإنما كان الحكم في غيرها ، فإن هذا يستلزم إلغاء ما اعتبره الشارع وعلق الحكم به صريحا ، وتعطيل محل الحكم الذي كان لأجله وفيه .
ثم لو لم يرد الحديث الصحيح فيه لكان هو مقتضى الميزان الذي أنزله الله تعالى ليقوم الناس بالقسط ، وهو التسوية بين المتماثلين ، فإن السرية فراش حسا وحقيقة وحكما ، كما أن الحرة كذلك ، وهي تراد لما تراد له الزوجة من الاستمتاع والاستيلاد ، ولم يزل الناس قديما وحديثا يرغبون في السراري لاستيلادهن واستفراشهن ، والزوجة إنما سميت فراشا لمعنى هي والسرية فيه على حد سواء . [ ص: 369 ]
وقال : لا تكون الأمة فراشا بأول ولد ولدته من السيد ، فلا يلحقه الولد إلا إذا استلحقه فيلحقه حينئذ بالاستلحاق لا بالفراش ، فما ولدت بعد ذلك لحقه ، إلا أن ينفيه ، فعندهم ولد الأمة لا يلحق السيد بالفراش إلا أن يتقدمه ولد مستلحق ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد أبو حنيفة بزمعة وأثبت نسبه منه ، ولم يثبت قط أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك غيره ، ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا استفصل فيه .
قال منازعوهم : ليس لهذا التفصيل أصل في كتاب ولا سنة ولا أثر عن صاحب ، ولا تقتضيه قواعد الشرع وأصوله ، قالت الحنفية : ونحن لا ننكر كون الأمة فراشا في الجملة ، ولكنه فراش ضعيف وهي فيه دون الحرة ، فاعتبرنا ما تعتق به بأن تلد منه ولدا فيستلحقه ، فما ولدت بعد ذلك لحق به إلا أن ينفيه ، وأما الولد الأول فلا يلحقه إلا بالاستلحاق ، ولهذا قلتم : إنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا باستلحاق مستأنف ، بخلاف الزوجة ، والفرق بينهما : أن عقد النكاح إنما يراد للوطء والاستفراش ، بخلاف ملك اليمين ، فإن الوطء والاستفراش فيه تابع ، ولهذا يجوز وروده على من يحرم عليه وطؤها بخلاف عقد النكاح .
قالوا : والحديث لا حجة لكم فيه ؛ لأن وطء زمعة لم يثبت ، وإنما ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم لعبد أخا ، لأنه استلحقه فألحقه باستلحاقه لا بفراش الأب .
قال الجمهور : إذا كانت الأمة موطوءة فهي فراش حقيقة وحكما ، واعتبار ولادتها السابقة في صيرورتها فراشا اعتبار ما لا دليل على اعتباره شرعا ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره في فراش زمعة ، فاعتباره تحكم .
وقولكم : إن الأمة لا تراد للوطء ، فالكلام في الأمة الموطوءة التي اتخذت سرية وفراشا وجعلت كالزوجة أو أحظى منها لا في أمته التي هي أخته من الرضاع ونحوها . [ ص: 370 ] وقولكم : إن وطء زمعة لم يثبت حتى يلحق به الولد ليس علينا جوابه ، بل جوابه على من حكم بلحوق الولد بزمعة وقال لابنه : هو أخوك .
وقولكم : إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه باطل ، فإن المستلحق إن لم يقر به جميع الورثة لم يلحق بالمقر ، إلا أن يشهد منهم اثنان أنه ولد على فراش الميت ، وعبد لم يكن يقر له جميع الورثة ، فإن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أخته ، وهي لم تقر به ، ولم تستلحقه ، وحتى لو أقرت به مع أخيها سودة عبد لكان ثبوت النسب بالفراش لا بالاستلحاق ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح عقيب حكمه بإلحاق النسب بأن : ( ) معللا بذلك منبها على قضية كلية عامة تتناول هذه الواقعة وغيرها . الولد للفراش
ثم جواب هذا الاعتراض الباطل المحرم أن ثبوت كون الأمة فراشا بالإقرار من الواطئ أو وارثه كاف في لحوق النسب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقه به بقوله : ابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ، كيف وزمعة كان صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابنته تحته ، فكيف لا يثبت عنده الفراش الذي يلحق به النسب ؟ .
وأما ما نقضتم به علينا أنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف ، فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد هذا أحدهما
والثاني : أنه يلحقه وإن لم يستأنف إقرارا ، ومن رجح القول الأول قال : قد يستبرئها السيد بعد الولادة فيزول حكم الفراش بالاستبراء ، فلا يلحقه ما بعد الأول إلا باعتراف مستأنف أنه وطئها كالحال في أول ولد ، ومن رجح الثاني قال : قد يثبت كونها فراشا أولا ، والأصل بقاء الفراش حتى يثبت ما يزيله إذ ليس هذا نظير قولكم : إنه لا يلحقه الولد مع اعترافه بوطئها حتى يستلحقه ، وأبطل من هذا الاعتراض قول بعضهم : إنه لم يلحقه به أخا ، وإنما جعله له عبدا ، ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال : ( هو لك ) أي : مملوك لك ، وقوى هذا الاعتراض بأن في بعض ألفاظ الحديث " هو لك عبد " وبأنه أمر أن تحتجب منه ، ولو كان أخا لها لما أمرها بالاحتجاب منه ، فدل على أنه أجنبي منها . سودة
قال : وقوله : ( ) تنبيه على عدم لحوق نسبه الولد للفراش بزمعة ، أي لم تكن هذه الأمة فراشا له ؛ لأن [ ص: 371 ] الأمة لا تكون فراشا ، والولد إنما هو للفراش ، وعلى هذا يصح أمر احتجاب منه ، قال : ويؤكده أن في بعض طرق الحديث : " سودة " قالوا : وحينئذ فتبين أنا أسعد بالحديث وبالقضاء النبوي منكم . احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ
قال الجمهور : الآن حمي الوطيس والتقت حلقتا البطان ، فنقول - والله المستعان - أما قولكم : إنه لم يلحقه به أخا وإنما جعله عبدا يرده ما رواه في " صحيحه " في هذا الحديث : ( محمد بن إسماعيل البخاري عبد بن زمعة ) وليس اللام للتمليك ، وإنما هي للاختصاص كقوله : ( هو لك ، هو أخوك يا ) الولد للفراش
فأما لفظة قوله ( هو لك عبد ) فرواية باطلة لا تصح أصلا .
وأما أمره بالاحتجاب منه ، فإما أن يكون على طريق الاحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشبه البين بعتبة ، وإما أن يكون مراعاة للشبهين وإعمالا للدليلين ، فإن الفراش دليل لحوق النسب ، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه ، فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي لقوته ، وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة ، وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها ، ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه ، فهذا الزاني يثبت النسب منه بينه وبين الولد في التحريم والبعضية دون الميراث والنفقة والولاية وغيرها ، وقد يتخلف بعض أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع ، وهذا كثير في الشريعة ، فلا ينكر من تخلف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشبه سودة بعتبة ، وهل هذا إلا محض الفقه ؟ وقد علم بهذا معنى قوله " ليس لك بأخ " لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصح ، وقد ضعفها أهل العلم بالحديث ، ولا نبالي بصحتها مع قوله لعبد : ( هو أخوك ) وإذا جمعت أطراف كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقرنت قوله " هو أخوك " بقوله : ( ) تبين لك بطلان ما ذكروه من التأويل ، وأن الحديث صريح في خلافه لا يحتمله بوجه والله أعلم . الولد للفراش وللعاهر الحجر
والعجب أن منازعينا في هذه المسألة يجعلون الزوجة فراشا لمجرد العقد ، وإن كان بينها وبين الزوج بعد [ ص: 372 ] المشرقين ، ولا يجعلون سريته التي يتكرر استفراشه لها ليلا ونهارا فراشا .