السادس عشر : أن ثلاثة : الحس ، والعقل ، والمركب منهما ، فالمعلومات ثلاثة أقسام : أحدها : ما يعلم بالعقل ، والثاني : ما يعلم بالسمع ، والثالث : ما يعلم بالعقل والسمع ، وكل منها ينقسم إلى ضروري ونظري ، وإلى معلوم ومظنون وموهوم ، فليس كل ما يحكم به العقل يكون علما ، بل قد يكون ظنا أو وهما كاذبا ، كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك ، فلا بد من حاكم يفصل بين هذه الأنواع ، فإذا اتفق العقل والسمع أو العقل والحس على قضية كانت معلومة يقينية ، وإذا انفرد بها الحس عن العقل كانت وهمية ، كما ذكر من أغلاط الحس في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنا ، والساكن متحركا ، والواحد اثنين والاثنين واحدا ، والعظيم الجرم صغيرا والصغير كبيرا ، والنقطة دائرة ، وأمثال ذلك ، وهذه الأمور يجزم بغلطها لتفرد الحس بها عن العقل . طرق العلم
وكذلك حكم السمع قد يكون كاذبا ، وقد يكون صادقا ، ضرورة ونظرا ، وقد يكون ظنيا ، فإذا قارنه العقل كان حكمه علما ضروريا ونظريا ، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة فإنه حصل بواسطة السمع والعقل ، فإن السمع أدى إلى العقل ما سمعه من ذلك ، والعقل حكم بأن المخبرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فأفاده علما ضروريا أو نظريا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبر به ، والنزاع في كونه ضروريا أو نظريا لا فائدة فيه ، وكذلك الوهم يدرك أمورا ، لا يدرى صحيحة هي أم باطلة فيردها إلى العقل الصريح ، فما صححه منها قبله وما حكم ببطلانه رده ، فهذا أصل يجب الاعتبار به وبه يعرف الصحيح من الفاسد .
[ ص: 120 ] إذا عرف هذا فمعلوم أن السمع الذي دل العقل على صحته من السمع الذي لم يشهد له عقل ، ولهذا كان أعرف عند العقل من الآحاد ، وما ذاك إلا لأن دلالة العقل قد قامت على أن المخبرين لا يتواطئون على الكذب ، وإن كان الذي أخبروا به مخالفا لما اعتاده المخبر وألفه وعرفه فلا نجد محيدا عن تصديقهم ، والدلالة العقلية البرهانية على صدق الرسل أضعاف الأدلة الدالة على صدق المخبرين خبر التواتر ، فإن أولئك لم يقم على صدق كل واحد منهم دليل ، ولكن اجتماعهم على الخبر دليل على صدقهم ، والرسل عليهم الصلاة والسلام قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فرد منهم ، فقد اتفقت كلمتهم وتواطأت أخبارهم على الخبر المتواتر ، وأنه تعالى فوق عرشه فوق سماواته بائن من خلقه ، وأنه مكلم متكلم آمر ناه يرضى ويغضب ، ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض ، فأفاد خبرهم العلم بالمخبر عنه أعظم من الأخبار المتواترة لمخبرها ، ويجب فإن الأخبار المتواترة مستندة إلى حس قد يغلط ، وأخبار الأنبياء مستندة إلى وحي لا يغلط ، فالقدح فيها بالعقل من جنس شبه إثبات العلو والفوقية لله تعالى السوفسطائية القادحة في الحس والعقل ، ولو التفتنا إلى كل شبهة يعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوق بشيء نعلمه بحس أو عقل بهما ، يوضحه :