[ ص: 99 ] [ شبهة وجوابها ]
وقال تعالى : لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ، وقد أشكلت هذه الآية على كثير من الناس وأورد اليهود والنصارى على المسلمين فيها إيرادا وقالوا : كان في شك فأمر أن يسألنا وليس فيها بحمد الله إشكال ، وإنما أتي أشباه الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم وإلا فالآية من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلا ، فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، وقوله : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ، وقوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، وقوله : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ، ونظائره ، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشك ولم يسأل .
وفي تفسير سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 100 ] وسلم قال : " لا أشك ولا أسأل " .
وقد ذكر عن ابن جريج رضي الله عنهما قال : فإن كنت في شك أنك مكتوب عندهم فاسألهم وهذا اختيار ابن عباس . ابن جرير
قال : يقول تعالى لنبيه : فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك ، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن [ ص: 101 ] أبعثك رسولا إلى خلقي لأنهم يجدونك مكتوبا عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتبهم ، فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك . كعبد الله بن سلام
وكذلك قال ابن زيد : قال : هو [ كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] . عبد الله بن سلام
وقال الضحاك : سل أهل التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب [ ممن أدرك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ] .
[ ص: 102 ] ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصودها وأين كان وقت نزول هذه الآية ؟ فإن السورة مكية عبد الله بن سلام وابن سلام إذ ذاك على دين قومه ، وكيف يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه ؟
[ ص: 103 ] وقال كثير من المفسرين : هذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره ; لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب ، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره كما يقول متمثلهم : ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) .
وكقوله تعالى : ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، والمراد أتباعه بهذا الخطاب .
قال أبو إسحاق : إن الله تعالى يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب شامل للخلق ، والمعنى : وإن كنتم في شك والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة : قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله .
[ ص: 104 ] وقال ابن قتيبة : كان الناس في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصنافا منهم كافر به مكذب ، وآخر مؤمن به مصدق ، وآخر شاك في الأمر لا يدري كيف هو ، فهو يقدم رجلا ويؤخر رجلا ، فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس وقال : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسل .
قال : ووحد وهو يريد الجمع كما قال : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، و : ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ، و : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه .
وهذا - وإن كان له وجه - فسياق الكلام يأباه فتأمله وتأمل قوله تعالى : يقرءون الكتاب من قبلك ، وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ، وقوله : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وهذا كله [ ص: 105 ] خطاب واحد متصل بعضه ببعض .
ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجه إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاك ، وكل هذا فرار من توهم ما ليس بموهوم : وهو وقوع الشك منه والسؤال ، وقد بينا أنه لا يلزم إمكان ذلك فضلا عن وقوعه .
فإن قيل : فإذا لم يكن واقعا ولا ممكنا فما مقصود الخطاب والمراد به ؟
قيل : المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد ، وأنهم مقرون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك ، وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه ، فمن شك في ذلك فليسأل أهل الكتاب ، فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة وأدلها على المقصود ، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشك قط ولم يسأل قط ولا عرض له ما يقتضي ذلك ، وأنت إذا تأملت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته : من شك فليسأل فرسولي لم يشك ولم يسأل .
والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية ، وهذه الحكمة منتفية في حق غيرهم ، فيجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله .