قال المصنف رحمه الله : وأما الشرب من الماء الصافي : فقد تخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم . أخبرنا ابن الحصين ، نا ، نا ابن المذهب أحمد بن جعفر ، ثنا ، عن فليح بن سليمان ، عن سعيد بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جابر بن عبد الله أتى قوما من الأنصار يعود مريضا فاستسقى وجدول قريب منه ، فقال إن عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا ، أخرجه البخاري . وأخبرنا منصور القزاز ، نا ، نا أبو بكر الخطيب أبو عمر بن مهدي ، ثنا ، ثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي محمد بن عمرو بن أبي مدعور ، ثنا ، نا عبد العزيز بن محمد عن أبيه عن هشام بن عروة [ ص: 210 ] رضي الله عنها : عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقي له الماء العذب من بئر السقيا .
قال المصنف : وينبغي أن يعلم أن الماء الكدر يولد الحصا في الكلى والسدد في الكبد ، وأما الماء البارد فإنه إذا كانت برودته معتدلة فإنه يشد المعدة ، ويقوي الشهوة ، ويحسن اللون ، ويمنع عفن الدم وصعود البخارات إلى الدماغ ويحفظ الصحة وإذا كان الماء حارا أفسد الهضم وأحدث الترهل وأذبل البدن ، وأدى إلى الاستسقاء والدق فإن سخن بالشمس خيف منه البرص ، وقد كان بعض الزهاد يقول إذا أكلت الطيب وشربت الماء البارد متى تحب الموت وكذلك قال أبو حامد الغزالي . إذا أكل الإنسان ما يستلذه قسا قلبه وكره الموت وإذا منع نفسه شهواتها وحرمها لذاتها اشتهت نفسه الإفلات من الدنيا بالموت .
قال المصنف رحمه الله : واعجبا كيف يصدر هذا الكلام من فقيه أترى لو تقلبت النفس في أي فن كان من التعذيب ما أحبت الموت ثم كيف يجوز لنا تعذيبها وقد قال عز وجل ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ورضي منا بالإفطار في السفر رفقا بها وقال ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) أوليست مطيتنا التي عليها وصولنا
وكيف لا نأوي لها وهي التي بها قطعنا السهل والحزونا
وأما معاقبة أبي يزيد نفسه بترك الماء سنة فإنها حالة مذمومة لا يراها مستحسنة إلا الجهال ووجه ذمها أن للنفس حقا ومنع الحق مستحقه ظلم ، ولا يحل للإنسان أن يؤذي نفسه ، ولا أن يقعد في الشمس في الصيف بقدر ما يتأذى ، ولا في الثلج في الشتاء . والماء يحفظ الرطوبات الأصلية في البدن وينفذ الأغذية وقوام النفس بالأغذية فإذا منعها أغذية الآدميين ومنعها الماء فقد أعان عليها وهذا من أفحش الخطأ . وكذلك منعه إياها النوم ، قال ابن عقيل : وليس للناس إقامة العقوبات ولا استيفاؤها من أنفسهم ، يدل عليه أن إقامة الإنسان الحد على نفسه لا يجزي فإن فعله أعاده الإمام . وهذه النفوس ودائع الله عز وجل حتى أن التصرف في الأموال لم يطلق لأربابها إلا على وجوه مخصوصة .
قال المصنف رحمه الله قلت : وقد روينا في حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزود طعاما وشرابا . وأن فرش له في ظل صخرة وحلب له لبنا في قدح [ ص: 211 ] ثم صب ماء على القدح حتى برد أسفله ، وكل ذلك من الرفق بالنفس . وأما ما رتبه أبا بكر أبو طالب المكي فحمل على النفس بما يضعفها . وإنما يمدح الجوع إذا كان بمقدار . وذكر المكاشفة من الحديث الفارغ وأما ما صنفه الترمذي فكأن ابتداء شرع برأيه الفاسد . وما وجه صيام شهرين متتابعين عند التوبة وما فائدة قطع الفواكه المباحة وإذا لم ينظر في الكتب فبأي سيرة يقتدي . وأما الأربعينية فحديث فارغ رتبوه على حديث لا أصل له من أخلص لله أربعين صباحا لم يجب الإخلاص أبدا فما وجه تقديره بأربعين صباحا ثم لو قدرنا ذلك فالإخلاص عمل القلب فما بال المطعم ثم ما الذي حسن منع الفاكهة ومنع الخبز وهل هذا كله إلا جهل . وقد أنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري قال حدثنا أبي قال حجج الصوفية أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب . لأن الناس إما أصحاب نقل وأثر وإما أرباب عقل وفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة والذي للناس غيب فلهم ظهور فهم أهل الوصال والناس أهل الاستدلال فينبغي لمريدهم أن يقطع العلائق وأولها الخروج من المال ثم الخروج من الجاه وأن لا ينام إلا غلبة وأن يقلل غذاءه بالتدريج .
قال المصنف رحمه الله قلت : من له أدنى فهم يعرف أن هذا الكلام تخليط فإن من خرج عن النقل والعقل فليس بمعدود في الناس وليس أحد من الخلق إلا وهو مستدل وذكر الوصال حديث فارغ . فنسأل الله عز وجل العصمة من تخليط المريدين والأشياخ والله الموفق .