الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن التكفير، مسألة عظيمة وأمر ليس بالهين، فلا يجوز الكلام فيه بغير علم، ولا التسرع في إطلاقه، لا سيما إذا تعلق الأمر بشخص معين من المسلمين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. متفق عليه.
وزاد مسلم: إن كان كما قال وإلا رجعت عليه.
ومن المجمع عليه بين العلماء أنه لا يجوز تكفير المخالف في المسائل الاجتهادية، فلا يجوز بأي حال من الأحوال تكفير المخالف في هذه المسألة المنصوص عليها في السؤال، وقد فصلنا أحكام وخطورة التكفير في فتاوى كثيرة، منها الفتاوى التالية: 721، 3869، 4132، 65312، وبينا في الفتوى رقم: 8106 الأمور التي يحكم بها على الإنسان بالكفر، وراجع أيضاً الفتوى رقم: 27222 وما فيها من فتاوى متفرعة عنها.
وأما بخصوص الراجح من القولين، فقد سبق لنا الجواب عن مثل هذا السؤال في الفتوى رقم: 64166، وبينا فيها أن مذهب الجمهور -وهو الراجح عندنا- عدم اعتبار حفظ المال إكراها مسوغا للنطق بالكفر، وذكرنا هناك الأدلة وأقوال أهل العلم على ذلك.
وقد ذكر بعض العلماء بأن الوعيد بإفساد المال يعتبر إكراها، كقول ابن حزم في المحلى: والإكراه هو كل ما يسمى في اللغة إكراها، وعرف بالحس أنه إكراه، كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن كذلك، أو الوعيد بإفساد المال كذلك، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل أو ضرب أو سجن أو إفساد مال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه.
ومثله قول ابن قدامة في المغني في شروط الإكراه في الطلاق، حيث قال: فأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة، وكذلك أخذ المال اليسير... إلى أن قال: وإن توعد بعذاب ولده، فقد قيل: ليس بالإكراه، لأن الضرر لاحق بغيره، والأولى أن يكون إكراها، لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله، والوعيد بذلك إكراه، فكذلك هذا.
ونحو ذلك قول ابن العربي في أحكام القرآن: وقد اختلف الناس في التهديد هل هو إكراه أم لا، والصحيح أنه إكراه، فإن القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلا قتلتك، أو ضربتك، أو أخذت مالك، أو سجنتك، ولم يكن له من يحميه إلا الله، فله أن يقدم على الفعل.
إلا أن الذي ينبغي أن يتنبه له أن الإكراه عند العلماء يختلف باختلاف المكره عليه، فما هو إكراه في الطلاق قد لا يكون إكراها في كلمة الكفر، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فيس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراها، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها فلها أن ترجع بناء على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها، فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها في الهبة، ولفظه في موضع آخر: لأنه أكرهها، ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته، لم يبح له التكلم بكلمة الكفر، ومثل هذا لو كان له عند رجل حق من دين أو وديعة، فقال: لا أعطيك حتى تبيعني أو تهبني، فقال مالك: هو إكراه.
وهذا كلام في غاية الحسن والمتانة من هذا العالم المحقق، فتأمله تجد أن الوعيد بإتلاف المال قد يكون إكراها في بعض الحالات، لكنه ليس إكراها معتبراً في قول الكفر.
والله أعلم.