الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالمقصود بهذه العبارة: أن الضمان لا يسقط عن السارق بمجرد رد المسروق إلى الحرز الذي أُخذ منه.
وقد ذكر الماوردي وجه ذلك بعد العبارة التي نقلها السائل، فقال في «الحاوي»: تحريره قياسا: أنه مال وجب ضمانه بهتك الحرز، فوجب أن لا يسقط ضمانه بعوده إلى الحرز كالمغصوب والمسروق. اهـ.
وإيضاح ذلك أن المال قد يتلف في حرزه قبل أن يحوزه صاحبه، فإذا ثبت الضمان في ذمة الغاصب أو السارق أو الخائن ولم يعقبه سبب لزواله، بقي حكمه متعلقا به حتى يرجع المال إلى صاحبه، وتثبت عليه يده مرة أخرى.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: الأصل أن المالك يصير مستردا للمغصوب بإثبات يده عليه؛ لأنه صار مغصوبا بتفويت يده عنه، فإذا أثبت يده عليه، فقد أعاده إلى يده، فزالت يد الغاصب ضرورة، إلا أن يغصبه ثانيا. اهـ.
وعلى أية حال، فالحكم الذي ذكره الماوردي محل خلاف بين أهل العلم، فمذهب الشافعية والحنابلة أن الضمان لا يسقط بذلك حتى يرد المال لصاحبه.
قال الحجاوي في «زاد المستقنع»: من أودع ... دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها ... ضمن. اهـ.
وقال ابن قدامة في «المغني»: مَن أَودِعَ شيئًا، فأخذَ بعضَه، لَزِمَه ضَمانُ ما أخَذ، فإن رَدَّه أو مثلَه، لم يَزُلِ الضَّمانُ عنه. وبهذا قال الشَّافعيُّ.
وقال مالِك: لا ضَمانَ عليه إذا رَدَّه أو مثلَه. وقال أصْحابُ الرَّأْي: إن لم ينفِقْ ما أخذَه ورَدَّهُ، لم يَضْمَنْ، وإن أَنْفَقَه ثمَّ رَدَّه أو مثلَه ضَمِنَ.
ولَنا، أَنَّ الضَّمانَ تعلَّق بذِمَّتِه بالأخْذِ، بدليلِ أَنَّه لو تَلِفَ في يدِه قبلَ رَدِّه ضَمِنَه، فلا يزُولُ إلَّا برَدِّه إلى صاحبِه كالمَغْصُوبِ. اهـ.
وقال المنهاجي في «جواهر العقود»: إذا استودع دنانير أو دراهم أنفقها أو أتلفها، ثم رد مثلها إلى مكانه من الوديعة ثم تلف المردود بغير فعله، فلا ضمان عليه عند مالك ...
وقال أبو حنيفة: إن رده بعينه لم يضمن تلفه، وإن رد مثله لم يسقط عنه الضمان.
وقال الشافعي وأحمد: هو ضامن على كل حال بنفس إخراجه لتعديه، ولا يسقط عنه الضمان سواء رده بعينه إلى حرزه، أو رد مثله. اهـ.
وهذا الخلاف يجري في جواب سؤال السائل. فلا يكفيه أن يرد مثل هذا المال إلى حرزه إلا على قاعدة مذهب المالكية.
وانظر الفتوى: 462520.
وإذا تلف المسروق رُدَّت قيمته يوم قبضه، وانظر الفتوى: 243145.
وإذا مات صاحب الحق، وجب رده إلى ورثته بحسب أنصبتهم الشرعية.
ولأن حصر الورثة ومعرفة أعيانهم لا يتيسر لكل أحد، فلا يكفي أن يرد الحق إلى أحدهم، أو بعضهم دون بقيتهم، فإن فعل ذلك لم يبرأ إلا بقدر حصة الآخذ، والمخرج هو دفع الحق لوصي الميت، أو وكيل الورثة إن كان لهم وكيل، وإلا فإلى القاضي، أو من ينوب منابه من الجهات المختصة.
جاء في «مجمع الضمانات»: مديون الميت إذا دفع الدين إلى وصي الميت يبرأ، ولو دفع إلى بعض ورثة الميت يبرأ بحصته. اهـ.
وجاء في حاشية ابن عابدين: قوله: (بل وارثه، أو وصيه يطالب الكفيل) فإن سلمه إلى أحد الورثة أو أحد الوصيين خاصة فللباقي المطالبة بإحضاره ...
وقد يشكل عليه قولهم: "أحد الورثة ينتصب خصما للميت فيما له وعليه" .. قلت: في جامع الفصولين: "أحد الورثة يصلح خصما عن المورث فيما له وعليه، ويظهر ذلك في حق الكل، إلا أن له قبض حصته فقط إذا ثبت حق الكل" اهـ.
وبه يظهر الجواب، وذلك أن حق المطالبة ثابت لكل واحد من الورثة، فإذا استوفى أحدهم حقه لا يسقط حق الباقين؛ لأن له استيفاء حقه فقط، وإنما قام مقام الباقين في إثبات حقهم. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح: رجل استدان من شخص دينا: قرضا، أو ثمن مبيع، أو أجرة عقار، أو أيّ شيء، ثمّ مات من له الحقّ. فماذا يصنع المدين؟
نقول: يجب عليه أن يوصل الحقّ إلى الورثة. فإذا قال الورثة: متفرقون، واحد في مكة، واحد في المدينة، واحد في الرياض، وواحد في مكان آخر؟ نقول: اذهب إلى المحكمة، وتحصر الإرث، وتسلم كل إنسان ما يستحقّه من الميراث. وإذا كان لهم وكيل ثابت وكالة شرعيّة فأعطها للوكيل، وتبرأ ذمّتك. اهـ.
والله أعلم.