الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإيمان بالكتب معناه أن نؤمن أن الله -تعالى- نزل على موسى التوراة، وعلى عيسى الإنجيل، وآتى داود زبورا.
ونؤمن مع ذلك بأن أهل الكتاب حرفوا ما بأيديهم من كلام الله، وأنه لا يمكننا الجزم بأن ما بأيديهم هو الكتاب المنزل من عند الله. وقد بين الحكمي -رحمه الله- في كتابه: معارج القبول، كيف يكون الإيمان بالكتب.
فقال ما مختصره: وَالثَّالِثُ: الْإِيمَانُ "بِكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ" عَلَى رُسُلِهِ "الْمُطَهَّرَةِ" مِنَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَمِنْ كُلِّ بَاطِلٍ، وَمِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهَا...
وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ كُلَّهَا مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُسُلِهِ، إِلَى عِبَادِهِ، بِالْحَقِّ الْمُبِينِ، وَالْهُدَى الْمُسْتَبِينِ.
وَأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا كَلَامَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- تَكَلَّمَ بِهَا حَقِيقَةً كَمَا شَاءَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَ.
فَمِنْهَا الْمَسْمُوعُ مِنْهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ، وَيَأْمُرُهُ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ... وَالْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمُ الصُّحُفُ الْأُولَى الِانْقِيَادُ لَهَا، وَالْحُكْمُ بِمَا فِيهَا... وَأَنَّ نَسْخَ الْكُتُبِ الْأُولَى بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَقٌّ، كَمَا نُسِخَ بَعْضُ شَرَائِعِ التَّوْرَاةِ بالإنجيل... وأن نسخ القرآن بعض آياته ببعض حق... وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي كِتَابٌ بَعْدَهُ، وَلَا مُغَيِّرَ وَلَا مُبَدِّلَ لِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِنْهُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُولَى فَقَدْ كَذَّبَ بِكِتَابِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْكُتُبِ فَقَدْ كَذَّبَ بِهِ، وَأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِ وَلَمْ يَقْتَفِ أَثَرَهُ ضل...
ثُمَّ الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَجِبُ إِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ، وَتَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ كُتُبِهِ: التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالزَّبُورَ عَلَى دَاوُدَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النِّسَاءِ: 163]. وَالْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.
وَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنِ التَّنْزِيلِ عَلَى رُسُلِهِ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النِّسَاءِ: 136]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 136]، وَقَالَ: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشُّورَى: 15]... انتهى محل الغرض من كلامه رحمه الله.
وأما ما يتعلق باحترام الأديان. فالذي يؤمن به أهل الإسلام هو أن الدين عند الله الإسلام، وأنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.
وأما معاملة أهل تلك الأديان بالحسنى والقسط معهم، والإحسان إليهم بما أذن فيه الشرع، فهذا مأمور به، ولا ينافي ما ذكرناه من الاعتقاد، قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}، وقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا {البقرة:83}، وقال: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {العنكبوت:46}. إلى غير ذلك من النصوص.
والله أعلم.