الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فها هنا أمران: أحدهما: أن قول المحدث: رجاله ثقات، أو سنده قوي، ليس تصحيحًا للحديث؛ لأن لصحة الحديث شروطًا خمسة، هي: عدالة الرواة، وضبطهم، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة.
فتصحيح السند فقط هو حكم باستيفاء الشروط الثلاثة الأولى دون الشرطين الآخرين، وهما: السلامة من الشذوذ والعلة القادحة.
وكون رجال الحديث ثقات، لا يقتضي صحته؛ لاحتمال عدم الاتصال في السند، أو وجود الشذوذ، أو العلة القادحة، قال الأمير الصنعاني في توضيح الأفكار: واعلم أن كلام المصنف هذا إشارة إلى فائدة مهمة ذكرها ابن حجر في فهرسته، فقال: فائدة مهمة عزيزة النقل كثيرة الجدوى والنفع، وهي: من المقرر عندهم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ إذ قد يصح السند أو يحسن لاجتماع شروطه من الاتصال، والعدالة، والضبط دون المتن لشذوذ أو علة، وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق أخرى، فلا تنافي بين قولهم: هذا حديث صحيح؛ لأن مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعًا؛ لعدم استلزام الصحة لكل فرد فرد من أسانيد ذلك الحديث، فعلم أن التقييد بصحة السند ليس صريحًا في صحة المتن ولا ضعفه، بل هو على الاحتمال، فهو دون الحكم بالصحة أو الحسن للمتن؛ إذ لا احتمال حينئذ. انتهى.
والأمر الثاني هو: الاستدلال بما هذا شأنه، فإن باب الاستدلال واسع، وحتى لو لم تسلّم صحة الحديث، فإن الاستدلال به على جهة الاعتضاد والاستئناس، لا بأس بها، فلا تلازم كذلك بين الاستدلال وبين الصحة، فقد يستدل العالم بما لم يصح، إما لكونه معضدًا لدليل آخر صحيح، وإما لكون هذا الحديث في الفضائل، ونحو ذلك مما هو معروف في محله، قال شيخ الإسلام -كما في المستدرك على مجموع الفتاوى لابن قاسم-: قوله: «كأني أستدل به مع حديث غيره؛ لا أنه حجة إذا انفرد»، يفيد شيئين: أحدهما: أنه جزء حجة، لا حجة، فإذا انضم إليه الحديث الآخر، صار حجة؛ وإن لم يكن واحد منهما حجة، فضعيفان قد يقومان مقام قوي. الثاني: أنه لا يحتج بمثل هذا منفردًا. انتهى.
ثم نقل الشيخ بعد كلامٍ ما جاء عن الإمام أحمد من قوله: وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء، فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخذنا بالحديث المرسل، إذا لم يجئ خلافه أثبت منه. انتهى.
فبان لك أن باب الاستدلال أوسع من أن يقتصر فيه على ما استوفى شروط الصحة.
والله أعلم.