الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالنبي صلوات الله عليه، قد بين المنهج الذي يسلكه الحاكم مع العصاة، وبين المنهج الذي يشرع للعاصي سلوكه: فأمر من ابتلي بشيء من هذه المعاصي أن يستتر بستر الله، ويقبل عافية الله.
ولم يبحث عن أحد من العصاة، ولم يفتش عنهم ليقيم عليهم الحدود، بل شرع لهم الاستتار، وشرع الستر عليهم، ثم إذا بدا من أحدهم المنكر بشهادة الشهود العدول، أو بإقراره وأتى هو معترفا ليقام الحد عليه، فحينئذ يقيمه ولي الأمر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بماعز والغامدية، روى الحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تَعَالَى عَنْهَا. فَمَنْ ألَمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ الله، ولْيَتُبْ إِلَى الله؛ فإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ الله. وصححه الألباني.
ونص أهل العلم على حرمة التجسس لإبداء وإظهار ما أخفاه المسلمون، بل يتركون وما استتروا به حتى تظهر منهم المعصية ويستعلنوا بها.
قال المناوي: يجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله حدا، الستر على نفسه والتوبة. فإن أقر عند حاكم، أقيم عليه الحد أو التعزير.
وعلم من الحديث أن من واقع شيئا من المعاصي، ينبغي أن يستتر، وحينئذ فيمتنع التجسس عليه؛ لأدائه إلى هتك الستر.
قال الغزالي: وحد الاستتار أن يغلق باب داره ويستتر بحيطانه. قال: فلا يجوز استراق السمع على داره ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلا أن يظهر عليه ظهورا يعرفه من هو خارج الدار؛ كصوت آلة اللهو والسكارى. ولا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى في داره. وقد أنشد في معناه:
لا تلتمس من مساوي الناس مستترا فيكشف الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا .. انتهى.
ونهى الشارع الحكيم ولاة الأمر عن ابتغاء الريبة في المسلمين، والتفتيش عن عوراتهم، فروى أبو داود عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم.
قال النووي: حديث صحيح.
قال المناوي: (أفسدتهم) أي أوقعتهم في الفساد (أو كدت) أي قاربت أن (تفسدهم) لوقوع بعضهم في بعض بنحو غيبة، أو لحصول تهمة لا أصل لها، أو هتك عرض ذوي الهيئات المأمور بإقالة عثراتهم. وقد يترتب على التفتيش من المفاسد ما يربو على تلك المفسدة التي يراد إزالتها. والحاصل أن الشارع ناظر إلى الستر مهما أمكن، والخطاب لولاة الأمور ومن في معناهم بدليل الخبر الآتي: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس... الحديث. انتهى.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يتعافوا الحدود فيما بينهم، فإنها متى بلغت السلطان تعينت إقامتها، ولذا ذكر أهل العلم أنه لا بأس بالشفاعة في الحد قبل بلوغه الإمام، وذكروا أن للإمام تلقين السارق ونحوه من العصاة، فلربما رجع عن إقراره. ويشهد له فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز؛ كما في الصحيح.
قال البهوتي في كشاف القناع: (ولا بأس بتلقين السارق؛ ليرجع عن إقراره) لما تقدم من تعريضه صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما إخالك سرقت» وعن علي: أنه أتي برجل فسأله: أسرقت؟ قال: لا، فتركه. ونحوه عن أبي بكر الصديق وأبي هريرة وابن مسعود وأبي الدرداء.
(و) لا بأس (بالشفاعة فيه) أي السارق (إذا لم يبلغ الإمام) لقوله صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود، فما بلغني من حد وجب» (فإذا بلغه حرمت الشفاعة) وقبولها (ولزم القطع) وكذا سائر الحدود؛ لما تقدم في قصة المخزومية. انتهى.
والحاصل أن الشريعة الشريفة أتت بستر الناس، وعدم التفتيش عن عوراتهم وما يخفونه، لكن ما بدا وشهد به الشهود، وبلغ الإمام؛ تعين إقامة الحد الواجب فيه.
والله أعلم.