الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور جاء في الصحيحين وغيرهما، وهو يدل على أن ما ذكر لنا في نصوص الوحي عن نعيم الجنة إنما هو من باب التقريب للأذهان، وإلا فإن فيها من النعيم المقيم الأبدي ما لم يوصف لنا، ولا يمكن لعقولنا أن تتخيله ولا للغة التخاطب عندنا أن تعبر عنه، فالذي لم يوصف لنا من نعيم الجنة أعظم.. لذلك قال الله تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ {السجدة:17}.
ويوضح هذا ما جاء في إِكمَال المُعْلِمِ شرح صحيح مسلم للقاضي عياض عند هذا الحديث، حيث قال: ومعنى: بله ـ بفتح الباء وسكون اللام: دع عنك ما أطلعكم عليه، أي الذي لم يطلع عليه أعظم، فكأنه أضرب عنه استحقارًا له في جانب ما لم يطلع عليه.
وما جاء في الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة قال: في هذا الحديث من الفقه أنه لما كانت الدنيا دار ضيق وحرج، وكانت الآخرة دار إكرام الله تعالى لأوليائه، ومستقرًا لمن رضي عنه، أعد لهم الله فيها ما لم تر عين، وما لم تسمع أذن، ولا خطر على قلب بشر، صونًا لعطائه في الآخرة، وعن أن يوصف على جهته، فلا تصدقه النفوس لعظمته، لأن هذه الأعين ضيقة، وهذه النفوس نشأت في محل صغير، فإذا حدثت بما يتجاوز مقدار عقولها أو مبلغ إحساسها، مما ليس عندها أصل تقيسه عليه إلا ما تشاهده وتراه وتألفه، عجلت إلى الارتياب فيه، وسارعت إلى الشك في الخبر عنه، فلذلك أرى أن الله سبحانه وتعالى قال: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.
وقال النووي في شرح مسلم: فأما بَلْه فَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهَا دَعْ عَنْكَ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ، فَاَلَّذِي لَمْ يُطْلِعْكُمْ عليه أعظم، وكأنه أضرب عنه استقلالا له في جنب ما لم يُطْلِعْ عَلَيْهِ.
لذلك قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما رواه البيهقي وغيره: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فينبغي للمسلم أن يكون همه الأول هو البحث عن الوسائل التي يصل بها إلى رضى الله تعالى، حتى يدخله دار كرامته.
والله أعلم.