الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن القرآن الكريم قرآن واحد، وهو الذي يقرؤه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، لا يستطيع أحد أن يبدل أو يغير أو يزيد فيه أو ينقص منه حرفًا واحدًا؛ فقد تكفل الله -عز وجل- بحفظه، فقال -جل وعلا-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9}، هذا ما لا يمتري فيه عاقل ولا ينكره منصف. قال القاضي عياض في كتابه الشفا في بيان حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- 2/304: (وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، مما جمعه الدفتان من أول "الحمد لله رب العالمين" إلى آخر " قل أعوذ برب الناس" أنه كلام الله، ووحيه المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفًا قاصدًا لذلك، أو بدله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدًا لكل هذا -أنه كافر).
وقال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: (ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفًا متفقًا عليه أنه كافر).
فتبين بهذا الإجماع أن مِن أبطل الباطل ادعاء أن قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9} لا تتعارض مع فكرة قصر حفظ القرآن على الحفظ العام دون الحفظ الحرفي، فالآية عامة في كل حفظ ويؤيدها دليل الإجماع.
وهذا الادعاء مع مخالفته للنص والإجماع ليس عليه أثرة من علم، بل هي شبهة يرددها صاحب هذه الدعوى.
وكذلك دعواه قصر علة التيسير على الأصول دون فرش الحروف ادعاء لا دليل عليه، بل الدليل بخلافه؛ يبين ذلك ابن قتيبة -رحمه الله- في تأويل مشكل القرآن حيث يقول: فكان من تيسيره: أن أمره بأن يقرأ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم؛ فالهذليّ يقرأ: «عتّى حين» يريد حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 54] ، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ: تعلمون وتعلم وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] -بكسر تاء المضارعة- ، و: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس: 60] والتّميميّ يهمز. والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 11] وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] بإشمام الضم مع الكسر، وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف: 65] بإشمام الكسر مع الضم، و: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا [يوسف: 11] بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا -لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للّسان، وقطع للعادة. فأراد الله -برحمته ولطفه- أن يجعل لهم متّسعا في اللغات، ومتصرّفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدّين حين أجاز لهم على لسان رسوله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم، وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم، وحجّهم، وطلاقهم، وعتقهم، وسائر أمور دينهم. انتهى.
فأنت ترى أن ابن قتيبة -رحمه الله- قد مثل أمثلة للأصول ولفرش الحروف.
وأخيرًا نقول: إن الأمثلة التي أوردها صاحب الشبهة، وأراد بها الاستدلال على عدم صحة حكمة التيسير في اختلاف الأحرف والقراءات، استدلال غير صحيح؛ وذلك أن العلماء لم يدّعوا أن الحكمة في اختلاف الأحرف والقراءات محصورة في التيسير، ولا ذكروا أنها علة لكل اختلاف وقع بين الأحرف والقراءات، بل هي حكمة من الحكم في كثير من ألفاظ القرآن لا في كلها. وقد ذكر الزرقاني في مناهل العرفان بعض هذه الحكم، فذكر منها: بيان حُكم من الأحكام، والجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين، والدلالة على حكمين شرعيين ولكن في حالين مختلفين، ودفع توهم ما ليس مرادًا، وبيان لفظ مبهم على البعض، وتجلية عقيدة ضل فيها بعض الناس، فراجعها مفصلة في كتاب المناهل.
وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 161863، 11143.
والله أعلم.