الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في ما لو كان بعض أولياء الدم صغارا، وطالب البالغون الراشدون منهم بالقصاص، فهل يجب الانتظار حتى يبلغ الصغار أم لا؟ وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 70348، فإذا كان الراجح عند القاضي أن القصاص يؤجل حتى يبلغ الصغار ـ كما هو مذهب الشافعية والحنابلة ـ فحكم بحبس القاتل إلى ذلك الحين، فإن حكمه يرفع الخلاف ويلزم العمل به.
وأما مسألة تداخل الحدود، فإن اجتمع موجبان للقتل، لم يمكن استيفاء حقهما كل على حدته، فلابد إذاً من التداخل أو تقديم أحدهما وفوات الآخر، والجمهور على تقديم الواجب لحق آدمي على ما كان خالصا لحق الله تعالى، وقيل: يقتل لهما جميعا. قال أبو البركات ابن تيمية في (المحرر): من اجتمع عليه قتلان بردة وقود، أو قطعان بسرقة وقود، قطع وقتل لهما، وقيل: للقود خاصة. اهـ.
وقال ابن قدامة في (المغني): إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة، أو القتل للردة، أو لترك الصلاة، فينبغي أن يقتل للمحاربة، ويسقط الرجم؛ لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص، وإنما أثرت المحاربة في تحتمه، وحق الآدمي يجب تقديمه. اهـ.
وقال أيضا: إذا اجتمعت الحدود، لم تخل من ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: أن تكون خالصة لله تعالى... القسم الثاني: الحدود الخالصة للآدمي، وهو القصاص، وحد القذف... القسم الثالث: أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين، وهذه ثلاثة أنواع؛ أحدهما: أن لا يكون فيها قتل... النوع الثاني: أن تجتمع حدود لله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل، فإن حدود الله تعالى تدخل في القتل، سواء كان من حدود الله تعالى، كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة، أو لحق آدمي كالقصاص... اهـ.
وإذا حكم القاضي بقتله لترك الصلاة حداً ـ كما هو مذهب المالكية والشافعية ـ أو ردةً ـ كما هو مذهب الحنابلة ـ فإن لأولياء الدم أن يطالبوا بالدية؛ لفوات حقهم في القصاص وتعذر استيفائه، قال الجمل في حاشيته على شرح المنهج: ينبني على كون قتله لله أو للآدمي سقوط الدية إن كان للآدمي، وعدم سقوطها إن كان لله، وأيضا لو قتل للآدمي كان هو الذي يتولى قتله وتعتبر المماثلة، بخلاف ما إذا كان لله تعالى. اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: لو اجتمع قتل قصاص في غير محاربة وقتل محاربة قدم السابق منهما ورجع الآخر إلى الدية. اهـ.
وقال ابن قدامة: يقدم القصاص على القتل بالردة؛ لأنه حق آدمي، وإن عفا عنه ولي القصاص، فله دية المقتول، فإن أسلم المرتد فهي في ذمته، وإن قتل بالردة أو مات، تعلقت بماله. اهـ.
وقال أيضا: إن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص، بدئ بأسبقهما؛ لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا، فيقدم أسبقهما، فإن سبق القتل في المحاربة، استوفي، ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني، وإن سبق القصاص، قتل قصاصا، ولم يصلب؛ لأن الصلب من تمام الحد، وقد سقط الحد بالقصاص، فسقط الصلب، كما لو مات ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته؛ لأن القتل تعذر استيفاؤه، وهو قصاص، فصار الوجوب إلى الدية، وهكذا لو مات القاتل في المحاربة، وجبت الدية في تركته؛ لتعذر استيفاء القتل من القاتل. اهـ.
وقال أيضا: إن قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص، نص عليه أحمد، والولي مخير بين قتله والعفو عنه، فإن اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت؛ لأنه حق آدمي. وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله. وإن كان القتل خطأ وجبت الدية في ماله لأنه لا عاقلة له. اهـ.
وقال البهوتي في كشاف القناع: (وإن قتل مع المحاربة جماعة قتل بالأول ولأولياء الباقين) من القتل (دياتهم) في مال القاتل كما لو مات؛ لتعذر القصاص. اهـ.
ويبقى الفرق بين القتل حدا أو ردة في ما يتعلق بأمر الدين من أحكام، كالتغسيل والتكفين والدفن والصلاة عليه والإرث.
والله أعلم.