الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن العغو خلق عظيم، جاءت نصوص الوحي من كتاب وسنة ببيان فضله، والحث على التحلي به، وقد أوردنا جزءًا من هذه النصوص في الفتوى رقم: 54580، فلتراجع.
وهو أفضل -قطعًا- من الأخذ بالحق والانتصار للنفس؛ لقوله تعالي: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى:40- 43}.
لكنه -مع ذلك- ليس دائمًا محمودًا، وإن كان ذلك هو الغالب فيه، ففي بعض الأمور والمواقف يكون العفو ضعفًا ومذلة، ولا ينبغي -حينئذ- العفو، بل الانتقام والأخذ بالحق، يقول الشيخ/ الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب: الانتقام له موضع يحسن فيه, والعفو له موضع كذلك, وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله, ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته -مثلا- إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور, تنتهك به حرمات الله, فالانتقام في مثل هذه الحالة واجب, وعليه يحمل الأمر{فَاعْتَدُوا} الآية, أي: كما بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب, بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح, ونحو ذلك، فعفوه أحسن وأفضل, وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل. اهـ.
وعليه؛ فالعفو هو الأفضل والأولى دائمًا إلا إذا ترتب عليه ما ليس محمودًا فيكون عدمه أولي، وقد يتعين عدم العفو إن ترتب على العفو أمر محرم شرعًا.
وانطلاقًا من هذا يمكن أن تقيسي حالك وحال زوجك على ما تقدم؛ لتعرفي متى يكون العفو محمودا لكما؟ ومتى لا يكون كذلك؟ على أن ما هو واضح من كلامك أن ما يصدر منك من عفو ومسامحة هو العفو المحمود الذي حث عليه الشرع ورغب فيه، وأن زوجك يرى هذا النوع من العفو ضعفًا ونفاقًا، وهذا خطأ، فينبغي أن تنبهيه على ذلك، وتوضحي له أن العفو لا يعني الضعف أو الذل، بل على العكس من ذلك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا) رواه مسلم.
ثم إن من يعفو ينبغي أن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وطلبًا لثوابه، وأن لا يهمه ما يقال عنه بعد ذلك، فإذا استحضر هذا المعنى زال عنه ما يجده في نفسه من معان خاطئة عن العفو.
هذا؛ واعلمي أن ما أشرت إليه من هجره لمن يخطئ في حقه -إن كان المقصود به الهجر المعروف شرعًا- فلا يجوز منه ما زاد على ثلاثة أيام؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ..) متفق عليه.
والله أعلم.